أعمده ومقالات أنصاف الحقائق بواسطة أحمد جلال 10 سبتمبر 2017 | 1:25 م كتب أحمد جلال 10 سبتمبر 2017 | 1:25 م النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 3 من الأقوال المأثورة التى نسمعها كثيرا أن «الأرقام لا تكذب» وأن «الأعمال بالنيات» وأن «العبرة بالخواتيم». هذا كلام جميل، لكنه غير صحيح بشكل مطلق. الأرقام قد يتم اجتزاؤها وتطويعها لخدمة أغراض غير حميدة. صدق النوايا قد يترجم لأعمال لا تؤدى بالضرورة إلى صلاح الأحوال. التعويل على الخواتيم دون مقدمات مبشرة قد يعنى ضياع فرص ثمينة للتقدم والارتقاء. فى نهاية المطاف من الصعب أن نتصور أن انتشار أنصاف الحقائق فيما نقرؤه ونسمعه ونشاهده يمكن أن يعنى غير المزيد من الضبابية وعدم الاطمئنان. الخروج من هذا المأزق يتطلب شجاعة الكشف عن الحقائق ما أمكن ذلك، والعمل الدؤوب على توفير الإطار المؤسسى الذى يحد من انتشار أنصاف الحقائق. مقولة «الأرقام لا تكذب» تستمد قوتها من أنها توصيف دقيق للواقع يصعب إنكاره أو الخلاف عليه. المشكلة تطل برأسها عندما يتم انتقاء أرقام معينة، من بين أطنان الأرقام المتاحة، وصياغتها بشكل معين لإبراز جزء من الحقيقة. المثال الذى يحضرنى الآن للتدليل على هذا الاجتزاء هو مانشيت يتكرر كل عام فى عدد لا بأس به من الصحف: «موازنة الحكومة هذا العام أكبر موازنة فى تاريخ مصر». للتدليل على صحة الخبر، يتم الإشارة فى متن الخبر للكثير من الأرقام المليارية الخاصة بالإيرادات والمصروفات ومفرداتهما، مع التركيز على الزيادة فى الإنفاق الاجتماعى. كقارئ.. يبدو لى أن صياغة الخبر على هذا النحو تهدف إلى الإيحاء بالدور الفاعل للحكومة والأثر الإيجابى المتوقع من الموازنة على المواطن. كقارئ أيضا.. أجد نفسى غير مقتنع بذلك لعدة أسباب: ■ أولا: قد يكون رقم الموازنة أقل من مثيله فى العام السابق، إذا ما تم تقييمه بأسعار العام الماضى أو كنسبة من الناتج المحلى. ■ ثانيا: كبر حجم الموازنة، إذا كان ذلك صحيحا، قد لا يؤدى إلى تحسين الأحوال المعيشية للمواطن إذا لم يتسم الإنفاق العام بالكفاءة المطلوبة. ■ وأخيرا: قد تكون الزيادة فى الموازنة ناتجة عن جباية موارد جديدة من غير القادرين وإنفاقها على من لا يستحق. فى هذه الحالات وغيرها، الأرقام لا تكذب، لكن يتم تلوينها ويخسر الجميع. فيما يتعلق بمقولة «الأعمال بالنيات» فليس هناك شك فى أهمية النوايا الحسنة لتحقيق الصالح العام، ولكن هناك شك فى أنها كافية. بالإضافة للنوايا الحسنة، من الضرورى أن يتم تخصيص الموارد المتاحة بشكل أمثل، وهو ما يتطلب دراسة مقارنة للبدائل المختلفة واختيار أفضلها. تطبيقا لهذا المبدأ دعونا نتساءل دون تشكيك فى النوايا: هل مصر فى حاجة الآن لبناء عاصمة إدارية جديدة فى وقت لا تعمل فيه المصانع والمزارع والسياحة بكامل طاقتها؟ هل العائد الاجتماعى من الإنفاق على مشروع «الضبعة» لتوليد الكهرباء نوويا أعلى مما يمكن تحقيقه من زيادة الإنفاق على التعليم والصحة؟ هل الإنفاق على البنية الأساسية كأولوية أكثر فائدة من زيادة الإنفاق على المياه والصرف الصحى؟ قد تكون هناك إجابات شافية لهذه الأسئلة لدى صانعى القرار، لكن لا أظن أننا كمواطنين لدينا مثل هذه الإجابات. وأخيرا.. ماذا عن مقولة «العبرة بالخواتيم»؟ هنا أيضا، من الصعب الاختلاف حول معقولية فكرة الصبر والجلد وتحمل تكلفة الإصلاح الآن، انتظارا لمرحلة جنى الثمار غدا. الإشكالية تكمن فى عدم وجود مؤشرات واضحة تبشر بأن فوائد الإصلاح سوف تتحقق فى المستقبل. حتى تاريخه، المؤشرات مختلطة. فى خانة الإيجابيات يمكن رصد توقف انقطاع التيار الكهربائى، وتحسن ملحوظ فى جودة الطرق، واختفاء السوق السوداء للعملة، لكن كاهل المواطن ينوء فى نفس الوقت بمعدلات تضخم غير مسبوقة ومعدلات بطالة تأبى الانخفاض. فضلا عن ذلك، يبدو أن بعض سياسات الإصلاح المتبعة لا تعتمد بشكل كافٍ على التراكم المعرفى وخبرات الدول الأخرى. على سبيل المثال، تعمل الحكومة على جذب الاستثمار الأجنبى لدفع عجلة النمو، لكنها تعطى من الحوافز السخية ما قد يؤدى إلى تحويل ثروات مصر إلى الخارج. كما أن الحكومة ترفع شعار حماية الصناعة الوطنية، لكن ماذا عن المستهلك الذى قد يضطر إلى شراء سلع رديئة بأسعار مغالى فيها. كذلك تمضى الحكومة فى رفع أسعار الكهرباء لعلاج تشوهات طال التعايش معها، إلا أننا لا نرى من الآليات ما يضمن أن المستهلك لن يتحمل تكلفة تدنى كفاءة قطاع الكهرباء. وأخيرا، تعمل الحكومة على حماية الطبقات الأكثر فقرا عن طريق توسيع شبكة الحماية الاجتماعية، لكن ماذا تقدم الحكومة لمساعدة الطبقة المتوسطة التى يتآكل دخلها بسرعة فائقة تحت وطأة التضخم. خلاصة القول إذن أن الأقوال المأثورة من قبيل «الأرقام لا تكذب» و«الأعمال بالنيات» و«العبرة بالخواتيم» بها قدر من الصحة، لكن يشوبها قدر غير قليل من التضليل. إذا كانت الحقيقة الكاملة نادرة والزيف الكامل أنصع من أن ننساق وراءه، الأمل فى مستقبل أفضل يقتضى أمرين: إتاحة أكبر قدر من المعلومات لكل من يهمه الأمر، ومشاركة مجتمعية فيما يتم تبنيه من سياسات. اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/rnoa