الناجون من العدم – الجزء الثالث: السياسة.. الفوضى كأداة إدارة بواسطة دينا عبد الفتاح 22 أكتوبر 2025 | 9:35 ص كتب دينا عبد الفتاح 22 أكتوبر 2025 | 9:35 ص دينا عبدالفتاح رئيس تحرير أموال الغد النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 2.3K العالم يبكي على مقتل طفلٍ في الشمال، بينما يُستشهد آلافُ الأطفال في الجنوب في صمت. الوعي الجمعي هو أداةُ الاستعمار الأكثر شراسةً اليوم. في الماضي كانت السياسة تُعرّف بأنها فنّ إدارة الدول وتنظيم المصالح، أما اليوم فقد أصبحت أقرب إلى فنّ إدارة الأزمات. كلّ أزمة تُولَد لتغذّي أخرى، وكلّ حرب تُفتح لتبرّر استمرار نظامٍ سياسي أو أمني. لم تعد الفوضى نتيجةً لضعف النظام، بل أصبحت جزءًا من بنيته؛ وسيلةً لضمان بقائه في حالة حركة دائمة. هذا التحوّل جعل العالم يعيش داخل دائرةٍ مغلقةٍ من التوتر المصطنع، حيث لا تُحلّ الأزمات، بل تُعاد صياغتها كلّ مرة بوجهٍ جديد. منذ أكثر من تسع سنوات تبرز الأزمة الأوكرانية كنموذجٍ صارخ لكيف يمكن للنظام الدولي أن يبقى في حالة صراعٍ مفتوح تُغذّيه الخطابات السياسية العالمية وتُنتج تحالفاتٍ جديدة دون الوصول إلى تسوية حقيقية. فمنذ اندلاع الأحداث في عام 2014 وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، وحتى الحرب الواسعة في 2022، تحوّلت أوكرانيا إلى مسرحٍ لإعادة رسم النفوذ بين الشرق والغرب. لم تعد الحرب هناك مجرد نزاعٍ على أرض أو سيادة، بل أداة لإعادة تعريف موازين القوة. الأزمة الأوكرانية كشفت أن النظام الدولي لا يسعى إلى إنهاء الصراعات، بل إلى إدارتها؛ فكل هدنةٍ مؤقتة تُمدّد عمر النزاع، وكأنّ العالم يحتاج إلى الحرب لتبرير وجوده السياسي. إقرأ أيضاً دينا عبدالفتاح تكتب: الناجون من العدم- الجزء الثاني: الزمن أول درس مهم تعلمه الإنسان وأكبر خصم له دينا عبدالفتاح تكتب: الناجون من العدم – الجزء الأول: ماذا يحدث في الكون؟ الرئيس السيسي: 100 مليار جنيه تكلفة القوات المسلحة لمواجهة الإرهاب وإذا تناولنا أشكال القيادة السياسية اليوم، نستطيع أن نرصد صعود موجةٍ غريبة من الزعامات الشعبوية التي تعتمد على الكاريزما الشخصية بدلًا من البرامج السياسية. قدّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب النموذج الأوضح للزعيم الذي يصنع صورته من الإعلام أكثر مما يصنعها من الإنجاز، ويقود من خلال الإثارة لا من خلال الفكرة. وعلى نهجه ظهرت زعامات أخرى في دولٍ مختلفة، تتعامل مع السياسة كلحظة استعراضٍ دائم، ومع الشعوب كجمهورٍ يبحث عن البطل لا عن المشروع. في هذا النمط الجديد، تتحوّل الدولة إلى منصّةٍ إعلامية. أما السيطرة الحديثة، فلم تعد تحتاج إلى حروب أو معارك ولا حتى إلى احتلالٍ فعلي للأراضي؛ فالقوى الكبرى اليوم تمارس نفوذها عبر التأثير السياسي والمعرفي، من خلال الإعلام والتعليم والتقنيات التي تشكّل الوعي الجمعي. الاحتلال الحديث لا يرفع علمًا بل يزرع فكرة. تتدخل الدول في شؤون غيرها بذريعة دعم الديمقراطية، لتعيد رسم الخرائط بما يخدم مصالحها. ومنذ عقود تحولت شعارات “الحرية والإصلاح” في المنطقة العربية إلى أدواتٍ لتقسيم النفوذ بين العواصم الكبرى، وأصبحت قرارات بعض الدول تُتّخذ خارج حدودها بينما يظن شعبها أنه يختار بحرية. الحرية فقدت معناها لأنها انفصلت عن قيمتها الأخلاقية، وصارت تُقاس بما يُسمح لك أن تقوله، لا بما يمكنك أن تغيّره. لم تعد الحروب اليوم تسعى إلى النصر، بل إلى البقاء. من غزة إلى السودان واليمن، تُدار النزاعات لا لتُحسم بل لتُطيل عمر الأنظمة المحيطة بها. كلّ حرب تُبقي على نظامٍ ما، وتمنح طرفًا ذريعةً ليبقى في السلطة أو ليبرّر تحالفًا جديدًا. في غزة تحديدًا، لم تعد الحرب صراعًا عسكريًا بقدر ما أصبحت ورقة ضغطٍ دولية في لعبة النفوذ الإقليمي. وفي السودان، تتبدّل الولاءات بين القوى الخارجية أكثر مما تتغيّر موازين القوى في الداخل. لقد تحولت الحرب من فعلٍ سياسي إلى حركةٍ دائمة بلا هدف، مجرّد استمرارٍ للصراع كحالة قائمة بذاتها. خلال العقدين الماضيين، تهاوت الصورة الأخلاقية التي رسمها الغرب لنفسه. الحروب التي دارت باسم الحرية انتهت بفوضى، والقيم التي رُفعت شعارًا سقطت عند أول اختبارٍ للمصالح. الإعلام يبكي على طفلٍ في الشمال بينما يُدفن آلاف الأطفال في الجنوب دون كلمة واحدة. أصبحت حقوق الإنسان أداة ضغطٍ سياسية تُستخدم حين تخدم المصلحة وتُنسى حين تعارضها. القانون الدولي فقد هيبته وتحول إلى شبكةٍ يصطاد بها الأقوياء الضعفاء. العدالة العالمية اليوم انتقائية، تُمارس على المقاس لا على المبدأ. ومأساة فلسطين مثالٌ حيّ على ذلك؛ فالعالم الذي يرفع شعارات الحرية يغضّ الطرف عن الظلم حين يكون الضحية من الجنوب. وفي خلفية هذا المشهد، يظهر الذكاء الاصطناعي كقوةٍ جديدة تعيد تشكيل القرار السياسي العالمي. لم تعد القرارات الكبرى تُصنع في مكاتب الحكومات وحدها، بل في مراكز تحليل البيانات التي تدرس السلوك السياسي والاجتماعي وتُوجّه الخطاب العام. الأنظمة الذكية صارت شريكًا خفيًا في الحكم، تُقدّم توصياتٍ تُتخذ على أساسها قراراتٌ عسكرية واقتصادية حسّاسة. الخطر الحقيقي لم يعد في أن تتحكّم الآلة بالإنسان، بل في أن يتصرّف الإنسان بعقلٍ مبرمج، بعقلٍ باردٍ بلا ضمير. العالم يسير نحو إدارة خالية من العاطفة، حيث يتحول القرار السياسي إلى معادلة رياضية، والإنسان إلى متغيّر رقمي في نموذج حسابي. وسط هذا كله، اختفى الإنسان كقيمة من معادلات السياسة. لم يعد السؤال: ما العدل؟ بل: ما الممكن؟ ولم يعد النقاش حول الحق، بل حول الربح. تُدار الدول اليوم كما تُدار الشركات، تُقاس نتائجها بالأرقام لا بالضمير. ومع ذلك، فإن بذور الوعي بدأت تنبت من جديد. جيلٌ جديد من الشباب في العالم العربي والعالم بدأ يرفض الخطاب القديم، ويدرك أن الثورة الحقيقية ليست في الشارع فقط، بل في طريقة التفكير. هذا الجيل يريد استعادة السياسة كفعلٍ إنساني لا كعرضٍ إعلامي، ويبحث عن مشروعٍ للوعي قبل مشروعٍ للحكم. الفوضى ليست نهاية العالم، بل اختبارٌ أخير لإنسانية الإنسان. السياسة التي ستنجو ليست الأقوى، بل الأوعى. والقائد الذي سيبقى هو الذي يرى المستقبل كأمانة لا كغنيمة. في عالمٍ يتجه نحو الترقيم والتجريد، سيبقى القائد الإنساني هو المعادلة النادرة التي تُذكّرنا بأن السياسة ليست إدارة للعالم فحسب، بل مسؤولية تجاهه. اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/l9pn الفوضى في الإدارةالناجون من العدمحرب غزةضمير الإنسانية