الإرهاق الخفي وحقيقة اللا وجود.. الإنسان الذي نسي أن يعيش! بواسطة دينا عبد الفتاح 11 نوفمبر 2025 | 3:56 م كتب دينا عبد الفتاح 11 نوفمبر 2025 | 3:56 م دينا عبدالفتاح رئيس تحرير أموال الغد النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 80 الإرهاق الخفي ليس مرضًا، ولا اضطرابًا نفسيًا، ولا وباءً عابرًا من أوبئة العصر. إنه نظام حياة كامل مختل، بُني على فلسفة العيش في الزمن المؤجَّل، وعلى وهمٍ مستمر بأن القيمة والمعنى والسعادة موجودة في «ما سيأتي»، لا «ما هو قائم». بهذه البنية الوجدانية يعيش الإنسان ككائنٍ مزدوج الزمن: جسده يعمل في الحاضر، لكن وعيه مسكون بالمستقبل، فيحيا منقسمًا بين زمنين ويفقد انتماءه لأيٍّ منهما، حتى يُعلَّق في فراغٍ وجودي لا يجد له مرسى يستقر فيه. إقرأ أيضاً دينا عبدالفتاح تكتب: هجرة الثروات من بريطانيا… لماذا بدأت؟ من غادر؟ وإلى أين تتجه الثروات الآن؟ دينا عبدالفتاح تكتب.. نيويورك تختبر «اليسار» دينا عبدالفتاح تكتب: المتحف الكبير من لحظة الإبهار إلى قرار الحجز.. أين تقف معادلة التسويق؟ يعمل بلا توقف، لكنه لا يصل؛ لأن كل جهده موجّه نحو «اللا موجود». يتآكل إدراكه للحظة ويتحول وعيه إلى آلة توقّعٍ دائم، تستهلك طاقته العصبية والنفسية دون أن تمنحه أي شعور بالإنجاز الحقيقي. ليست المشكلة في العمل نفسه، بل في الانفصال عن اللحظة التي يحدث فيها العمل. وهذه، في معناها الأعمق، هي الخطيئة الكبرى ضد الذات الإنسانية: أن يفقد الإنسان وعيه بوجوده بينما لا يزال على قيد الحياة. على المستوى النفسي، يعيش الإنسان المعاصر في ما يسميه علماء السلوك «حلقة التوقّع المستمر». كل إنجازٍ يحققه لا يُرضيه، بل يفتح له بابًا لهدفٍ جديد. يتعلّق ذهنه دومًا بما بعد، في حين يفقد قدرته على التفاعل مع الآن. تتحول الراحة إلى ذنب، والسكينة إلى ضعف، وتُقاس قيمته بما ينتج، لا بما يكون. هذا الوعي المؤجَّل يولد حالة الانفصال الشعوري، إذ يواصل الإنسان حياته بلا حضور عاطفي حقيقي. يضحك لأنه يجب أن يضحك، لا لأنه سعيد؛ يتكلم بدافع الالتزام الاجتماعي، لا بدافع الرغبة في التواصل.. مع الوقت يفقد الدماغ قدرته على إفراز هرمونات السعادة الطبيعية- الدوبامين والسيروتونين- إلا في لحظة إنجاز جديدة، فينشأ إدمانٌ داخلي على التوتر والإنجاز، يصبح النجاح نفسه مصدرًا للقلق، لا للطمأنينة، لأن الإنسان فقد العلاقة السليمة بين العمل والمعنى. في الطب العصبي تُوصَف هذه الحالة بأنها استنفار مزمن للجهاز العصبي السمبثاوي، وهو الجزء المسؤول عن مواجهة الخطر أو «الاستجابة السريعة». حين يظل هذا النظام في حالة نشاط دائم، يبدأ المخ بإفراز هرمون الكورتيزول بشكل مستمر حتى من دون وجود خطر فعلي. الجسد هنا يدخل في وضع «الطوارئ الدائم»، فيفقد القدرة على الانتقال إلى حالة الراحة والتجدد التي يتولاها الجهاز العصبي المقابل- الباراسمبثاوي. وهكذا يصبح الإنسان متعبًا من الأمان نفسه، غير قادر على الاسترخاء لأنه لم يتعلم أن يشعر بالأمان إلا في التأهب. هذه الآلية البيولوجية كانت وسيلة نجاة في العصور القديمة حين كان الخطر ماديًا واضحًا، لكنها اليوم تُفعَّل بوساطة البريد الإلكتروني، وضغوط الأداء، والخوف من المستقبل. النتيجة هي أن آلية البقاء القديمة تعمل ضدنا، فتحوّل الإنسان إلى مخلوق قَلِق يعيش دفاعًا عن نفسه في عالم لا يطارده فيه أحد. الفلسفة الوجودية ترى أن الإرهاق الخفي ليس حالة عصبية فحسب، بل خلل في فهم الوجود نفسه.. الإنسان المعاصر يعيش في الزمن لكنه لا يعيش في اللحظة. وعيه أسير لمشروعه المستقبلي: يعمل، ويتعلّم، ويحب، لكنه يفعل كل ذلك ليصل إلى «نسخة أخرى من نفسه» لم تولد بعد، كما وصف هايدغر هذه الحالة: بأنها «نسيان الكينونة»، أي نسيان الوجود الفعلي أثناء مطاردة معنى يقع خارج التجربة. الإنسان يقرأ ليكتب عنها، يعمل ليبرر قيمته، يسافر ليوثق الرحلة لا ليستمتع بها. كل فعل مشروط بالنتيجة لا بالخبرة، فتتحول الحياة إلى سلسلة من الوسائل، بلا غاية حقيقية. في قلب الوفرة المادية يولد الفراغ الوجودي، لأن ما يُنتَج بلا وعيٍ لا يُشبِع. أما في فلسفة الطاقة الحيوية، فالإنسان كائن من ذبذبات دقيقة تتفاعل مع محيطه. الضجيج المستمر، الإشعاعات، الفوضى البصرية، والمحتوى الرقمي المفرط تستنزف هذا المجال الطاقي. تضع الجسد في حالة مقاومة حسية دائمة تُسمّى «تسرّب الطاقة». ولهذا نشعر بالتعب حتى من دون مجهود بدني، لأن الطاقة المستنزفة ليست عضلية، بل إدراكية. الدماغ يُستهلك في محاولته معالجة كمٍّ هائل من المؤثرات والمحفزات الصغيرة التي لا تتوقف. النتيجة حالة من الإرهاق الصامت: تعبٌ بلا سبب واضح، سببه أن الإنسان يعيش في بيئة لا تمنحه دقيقة صمت. الديانات السماوية قدّمت إجابة روحية دقيقة لهذه المعادلة. فالسكينة، في جوهرها، ليست نتاج السيطرة، بل نتاج الثقة. الإنسان الذي يؤمن بأن للكون نظامًا دقيقًا لا يحتاج لتدخله المفرط، هو إنسان يحتفظ بطاقته النفسية. وعندما يختل هذا الإيمان العملي، يولد القلق الذي هو جوهر الإرهاق الخفي.. في التصور الديني، الانفصال عن اللحظة هو انفصال عن «الحضور الإلهي في الآن»، لأن الروح لا تسكن الأمس أو الغد، بل تسكن النقطة التي يتحقق فيها الوعي والاتصال. ولهذا جعلت كل الأديان للذِكر أو الصلاة أو التأمل وظيفة واحدة: إعادة الإنسان إلى مركز اللحظة. إنها أدوات لإيقاف النزيف الزمني وإعادة المعنى إلى التجربة. من منظور اقتصادي- اجتماعي، جذور الإرهاق الخفي تمتد في البنية الحديثة للعمل والإنتاج. المجتمعات الصناعية وما بعدها جعلت الإنسان وحدة اقتصادية تُقاس بقيمتها السوقية لا الإنسانية. أنظمة العمل الرقمية فرضت الحضور الدائم – Always On – حتى في البيوت. لم تعد هناك حدود بين وقت العمل ووقت الراحة، فاختفى مفهوم التعافي. ثقافة الاستهلاك جعلت النجاح ماديًا بالضرورة: من لا يملك لا يُرى، ومن لا يُنتِج لا يُعتَبَر. هكذا تحوّل الإنسان إلى ترس في منظومة ضخمة تُمجِّد السرعة وتُعاقب التباطؤ، بينما أعصابه تبحث عن وتيرةٍ يمكنها تحمّلها. تتجلى نتائج هذا النمط من الحياة على المدى الطويل في كل مستوى من مستويات الإنسان. عقليًا، يتدهور التركيز والذاكرة بسبب استهلاك الطاقة الذهنية في التفكير بالمستقبل. نفسيًا، يفقد الإنسان قدرته على الفرح والمعنى. جسديًا، ترتفع معدلات اضطرابات النوم والهضم والمناعة بفعل الكورتيزول المزمن. روحيًا، يغيب الإحساس بالسكينة حتى أثناء العبادة. واجتماعيًا، يضعف التواصل الحقيقي لأن الناس تتعامل من خلال أدوارها لا ذواتها. الإرهاق الخفي، بهذا التوصيف، ليس حالة فردية، بل نتيجة جماعية لحضارة كاملة فقدت الصلة بإيقاعها الإنساني الطبيعي. الخبر السار أن هذا الوباء العصري يمكن القضاء عليه بشكل كامل وذلك من خلال إعادة برمجة العقل وخلال ثلاثين يومًا فقط من الممكن جدًا استعادة التوازن داخل الإنسان .. في مساء اليوم الأول، حيث تبدأ الليلة بصمتٍ قصير، تضعين الهاتف بعيدًا، وتُسوّين الوسادة، وتقولين لنفسك: سأجرّب أن أعيش يومي المقبل ببطء مقصود. في الصباح، تفتحين النافذة قبل أي شيء، يدخل الضوء عشر دقائق تكفي لإيقاظ الجسد دون صدمة. كوب ماء أولًا، ثم نفس عميق: شهيق أربع ثوانٍ، احتفاظ أربع، وزفير ست. الطريق ليس بطولة، هو تكرار بسيط لما يجعل الجهاز العصبي يهدأ: نوم في موعد ثابت، ماء يكفي، وجبتان حقيقيتان، عشرون دقيقة مشيًا على الرصيف نفسه الذي مررتِ به مئة مرة ولم تنتبهي له. في نهاية كل ليلة من الأسبوع الأول، تفريغ سريع للأفكار في مفكرة صغيرة، وإضاءة خافتة تقول لعقلِكِ: لا طوارئ هذا المساء. مع اليوم الثالث تقلّلين السكر نصفه، ومع اليوم الرابع تمنحين نفسك ساعة بلا شاشة، ومع الخامس تمددين الجسد عشر دقائق قبل النوم. بحلول اليوم السابع، تلاحظين أول علامة حياة: الدخول في النوم أسرع، ونبضٌ أقل استنفارًا. في الأسبوع الثاني يتغير شكل اليوم من الداخل. بدل قوائم لا تنتهي، تكتبين صباحًا ثلاث أولويات فقط، واضحة، قابلة للإنجاز. العمل يجري في إيقاع 45 دقيقة تركيز يتبعها عشر دقائق راحة بلا شاشة. منتصف النهار نافذة صمت قصيرة، خمس إلى عشر دقائق تسمعين فيها الهواء، لا الأخبار. تُعدّين جملة رفض لبقة تحفظ حدودك: «شكرًا على الثقة، وقتي ممتلئ حاليًا؛ أستطيع المساعدة في نطاق أو توقيت آخر». في مساءات هذا الأسبوع تسجّلين سطرين لا أكثر: لحظة واحدة شعرتِ فيها بالحضور، وشيء واحدٌ استنزفكِ وتنوين تقليله غدًا. ستكتشفين أن اليوم أطول حين يتوقف النزيف من أطراف الانتباه، وأن قول “لا” يجلب طاقة أكثر مما تتوقعين. الأسبوع الثالث رحمة للحواس. خمس عشرة دقيقة صمت تام كل يوم، بلا موسيقى ولا هاتف ولا كلام؛ مجرد سكون تتعرف فيه أعصابك إلى نفسها. لا هاتف في أول نصف ساعة بعد الاستيقاظ، ووجبة واحدة على الأقل “حقيقية” بلا تصنيع ثقيل. قبل النوم تمدد بسيط أو يوجا عشر دقائق، يكفيان لتذكير الجسد بأن سريركِ مكان أمان. تنظّمين سطحًا صغيرًا كل يوم: مكتب، رف، منضدة؛ الفوضى البصرية تستنزف أكثر مما نظن. خبرٌ واحد موثوق في اليوم يكفي، فالعقل لا يهضم سيلًا لا ينتهي. مرّة في هذا الأسبوع تخرجين للهواء الطلق؛ حديقة قريبة أو ممشى على شاطئ أو حتى شرفة واسعة. ستشعرين بأن الصوت الداخلي يعلو حين تخفّ الأصوات من حوله. في الأسبوع الرابع يعود المعنى ممسكًا بيد الهدوء. مع بداية كل صباح تكتبين نية اليوم بجملة قصيرة: لماذا أعمل؟ لمن أقدّم جهدي؟ ثم دقائق قليلة لعبادة أو تأمل بوعي كامل، لا روتينًا. في نهاية اليوم مراجعة رقيقة: ما الذي منحكِ طاقة؟ ما الذي استنزفكِ؟ ثلاثة أشياء تشكرينها، ولو كانت صغيرة حدّ الضحكة العفوية أو كوب شاي في مكان تحبينه. تنامين قبل منتصف الليل، والهاتف خارج الغرفة. تميّزين العلاقات التي ترفعك من تلك التي تستهلكك، وتختارين عادة واحدة مرهقة لتتركيها: مقارنة دائمة، استعجال، كمالية لا ترحم. هنا لا تبحثين عن الكمال؛ تبحثين عن نمطٍ يمكن أن يستمر. بعد ثلاثين يومًا سترين العلامات بوضوح لا يحتاج لقياسِ: نوم أعمق، تركيز يعود في وقته، مزاج أكثر اتزانًا، وإحساس ناعم بأن اليوم «يُعاش» لا «يُستهلك». ستعرفين أن الإرهاق الخفي لم يكن قدرًا، بل طريقة حياة يمكن تبديلها. خذي نفسًا، وقفي لحظة، واستوعبي أن الحياة تحدث هنا، الآن؛ لا في المستقبل المؤجَّل، ولا مع أشخاص غير موجودين، ولا في أي مكان غير المكان الذي أنتِ فيه هذه اللحظة. كل شيء حقيقي يبدأ من هذه النقط. اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/3fk9 الإعلامية دينا عبد الفتاحمقالات دينا عبد الفتاح