دينا عبدالفتاح تكتب: هجرة الثروات من بريطانيا… لماذا بدأت؟ من غادر؟ وإلى أين تتجه الثروات الآن؟ بواسطة دينا عبد الفتاح 20 نوفمبر 2025 | 9:42 ص كتب دينا عبد الفتاح 20 نوفمبر 2025 | 9:42 ص النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 46 منذ عقود طويلة، لم تكن بريطانيا مجرد دولة تستقبل رؤوس أموال، بل كانت جزءًا من الهوية المالية للنخبة العالمية. فقد قُدِّمت لندن باعتبارها عاصمة المال الأوروبية والعالمية، مدينة تجاوزت حدودها الجغرافية لتصبح مركزًا لإدارة الثروات عبر القارات، بفضل مزيج نادر من الاستقرار القانوني، وبنية مالية متقدمة، ونظام ضريبي منح امتيازًا استثنائيًا يُعرف بنظام (non-dom)هذا الامتياز خلق طبقة فريدة من المقيمين الماليين؛ يعيشون في بريطانيا لكن مواردهم الأساسية تُدار في الخارج دون أن تمسها الضرائب البريطانية. إقرأ أيضاً الإرهاق الخفي وحقيقة اللا وجود.. الإنسان الذي نسي أن يعيش! دينا عبدالفتاح تكتب: المتحف الكبير من لحظة الإبهار إلى قرار الحجز.. أين تقف معادلة التسويق؟ دينا عبدالفتاح تكتب: الناجون من العدم- الجزء الثاني: الزمن أول درس مهم تعلمه الإنسان وأكبر خصم له ومع مرور الوقت، أصبح هذا النظام حجر الزاوية لجاذبية لندن وتأثيرها العالمي. لكن هذه الصورة اللامعة بدأت تتشقق تدريجيًا. ومع تزايد الضغوط السياسية والاقتصادية، تحولت خطوات الإصلاح الضريبي إلى نقطة تحول جذرية. وحين أعلنت الحكومة البريطانية إلغاء نظام النان-دوم، الذي كان يمثل شريان الامتياز الضريبي للأثرياء لعقود، تحولت حالة القلق الصامت إلى قرار معلن: الرحيل. كان هذا النظام يعني ببساطة أن المقيم الأجنبي يستطيع أن يعيش في لندن دون أن يدفع ضرائب على دخله في الخارج. وبمجرد إلغائه، تغيرت قواعد اللعبة؛ فلم تعد لندن تمنح الحصانة الضريبية نفسها، ولا تحمي الأصول الخارجية من الضريبة، ولم يعد هناك ضمان بأن ضريبة الثروة لن تطبق مستقبلًا. بالنسبة لمن يديرون مليارات عبر أسواق متعددة، لم يكن الأمر مجرد تعديل فني بل تهديدًا مباشرًا لهيكل ثرواتهم. توقيت الانفجار لم يكن مصادفة. فالضغوط السياسية الداخلية لعبت دورًا محوريًا، خاصة بعد البريكست، حيث أصبح الخطاب العام أكثر حساسية تجاه الامتيازات الضريبية لغير البريطانيين. كانت تكلفة المعيشة ترتفع، والضغوط على المالية العامة تتزايد، وأصبح الهجوم على الأغنياء “غير دافعي الضرائب” ورقة سياسية سهلة ترضي المزاج الشعبي. وفي الوقت نفسه، كانت دول أخرى تفتح أبوابها بجرأة لا تخطئها العين: إيطاليا بنظام ضريبة ثابتة تجذب أصحاب الثروات، موناكو بصفر ضريبة دخل، الإمارات بإعفاء كامل من ضريبة الدخل ونظام إقامة مرن، وسويسرا بمزايا تفاوضية تكاد تُفصّل حسب حجم الثروة. كانت بريطانيا تُضيّق، بينما العالم يقدّم عروضًا مفتوحة. ومع تزايد الحديث عن ضريبة ثروة قد تُفرض مستقبلًا، لم يعد الانتظار خيارًا لمن يريدون حماية تراكمات مالية تمتد لعقود. ومع أن التحركات المالية الكبرى نادرًا ما تُعلن بصوت واضح، فإن بعض الأسماء كانت كبيرة لدرجة أن رحيلها لم يمرّ بهدوء. ناصف ساويرس كان أبرزها؛ أغنى رجل في مصر وأحد أكبر المستثمرين العرب في أوروبا. غيّر إقامته الضريبية من بريطانيا إلى إيطاليا والإمارات، وبدأ نقل جزء كبير من مكتب العائلة إلى أبوظبي، في خطوة مثّلت نموذجًا واضحًا لكيفية تفكير أصحاب الثروات عندما يشعرون بأن الأمان الضريبي يتراجع. وبعيدًا عنه، غادر نِك ستورونِسكي، مؤسس بنك Revolut الرقمي، متجهًا إلى دبي، بينما انتقل جيّوم بوزّاز، مؤسس Checkout.com، إلى موناكو. وحتى عمالقة العقار في المملكة المتحدة، الأخوان ريتشارد وإيان ليفينجستون، اختاروا موناكو بعد أن شعروا أن لندن لم تعد البيئة نفسها. كذلك بدأ رجل الشحن العالمي جون فريدريكسن تحويل إقامته نحو أوروبا القارية، بينما انتقل ريتشارد جنودي، أحد التنفيذيين الكبار في جولدمان ساكس، إلى ميلانو. هذه الأسماء ليست إلا الجزء العلني من موجة صامتة يتحرك فيها مديرو الثروات، وأصحاب الشركات التقنية، وعائلات الأعمال العريقة دون ضجيج. وبينما تغادر الأسماء، تبقى الثروة نفسها بحاجة إلى موطن جديد. وفي هذا السياق تتضح خريطة الجذب الجديدة بوضوح لافت. الإمارات، وتحديدًا دبي وأبوظبي، أصبحت المركز الأول عالميًا لاستقبال الثروات الخارجة من بريطانيا، بفضل غياب ضريبة الدخل، وسهولة تأسيس الأعمال، والمشهد المالي المتطور. وبالنسبة للعرب، والمصريين تحديدًا، تبدو الإمارات الخيار الأكثر انسجامًا بين الأمان والمرونة. أما إيطاليا، التي قدمت ضريبة ثابتة على الدخل الخارجي، فقد جذبت شريحة كبيرة من أصحاب الثروات الذين يبحثون عن جاذبية أوروبية دون عبء ضريبي عالمي—وهو ما يفسر انتقال ساويرس إليها. سويسرا بدورها تستبقي شريحة ترغب في الملاذ الآمن والاستقرار طويل الأجل، بينما تحافظ موناكو على مكانتها كجنة ضريبية تجذب النخب الأوروبية. وفي جنوب القارة، تقدم اليونان وإسبانيا والبرتغال نمط حياة مريحًا مع ضرائب أخف، فيما تبقى سنغافورة خيارًا مثاليًا لمن يدير ثروات موزعة عالميًا ويرتبط بمنطقة آسيا. وعند النظر إلى المستقبل، يبدو المشهد مرشحًا لاستمرار الموجة. فالأثرياء غير البريطانيين الذين يمتلكون أصولًا عالمية هم الأكثر عرضة للمغادرة لأن النظام الجديد يمس ثرواتهم في الخارج. رواد الأعمال في قطاع التكنولوجيا كذلك على قائمة الانتقال؛ فهم يبحثون عن بيئة تشجع النمو، لا تفرض عليه قيودًا. أما مديرو صناديق التحوط والثروات، فهم الأسرع حركة بطبيعتهم، ويمكنهم نقل نشاطهم بين لندن وميلانو ودبي بسهولة تامة. ما لم تغيّر بريطانيا اتجاهها الضريبي، ستظل هذه الموجة مستمرة. أما بالنسبة للمليونيرات المصريين المقيمين في لندن، فإن الصورة أكثر هدوءًا. الحالة الوحيدة التي ظهرت في الإعلام العالمي بوضوح هي ناصف ساويرس، بينما يفضل بقية المقتدرين المصريين في بريطانيا التحرك بصمت: بعضهم نقل إقامته إلى الإمارات، وبعضهم فتح مكاتب في الخارج مع الإبقاء على الأصول في لندن، وبعضهم لجأ إلى إعادة هيكلة شركاته للتخفيف الضريبي دون مغادرة فعلية. لا توجد موجة عودة جماعية، بل قرارات فردية محسوبة. في النهاية، ليست هجرة الثروات من بريطانيا تعبيرًا عن انهيار اقتصادي بقدر ما هي علامة على تحوّل عالمي أعمق. الثروة اليوم أكثر حركة من أي وقت مضى، وصاحبها يتخذ قراره بناءً على توازن واضح بين الاستقرار والضريبة والفرصة. بريطانيا لم تعد الإجابة الوحيدة، وربما لم تعد الإجابة الأفضل بالنسبة للبعض. ومع انفتاح أبواب جديدة في الإمارات وإيطاليا وسويسرا وموناكو، تبدو خريطة رأس المال العالمي في طور إعادة رسم، وتبدو لندن—التي اعتادت أن تكون نقطة الجذب الأولى—وكأنها تُجبر الآن على الدخول في منافسة لم تعتدها من قبل اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/cgcc دينا عبدالفتاحمقالات دينا عبد الفتاحهجرة الثروات من بريطانيا