دينا عبدالفتاح تكتب: الناجون من العدم- الجزء الثاني: الزمن أول درس مهم تعلمه الإنسان وأكبر خصم له بواسطة دينا عبد الفتاح 21 أكتوبر 2025 | 11:54 ص كتب دينا عبد الفتاح 21 أكتوبر 2025 | 11:54 ص دينا عبدالفتاح رئيس تحرير أموال الغد النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 1.1K في بدايته على الأرض، عاش الإنسان بلا وعيٍ بالزمن كما نعرفه اليوم. كانت الحياة بالنسبة له حالة من الوجود المباشر، لا تحتاج إلى قياس أو تقسيم. الليل والنهار كانا مجرد تبدّلٍ في الضوء والظلال، لا وحدتين زمنيتين تحكمان إيقاع يومه. لم يكن يدرك الفرق بين الأمس والغد، لأن التجربة لم تكن بعد قد انفصلت عن اللحظة. عاش الإنسان في تلك المرحلة على إيقاع الطبيعة نفسه، يعمل حين تنير الشمس ويهدأ حين يحلّ الظلام، فكان الزمن امتدادًا غريزيًا لإحساسه بالحياة. هذه الحالة من الانسجام لم تدم طويلًا؛ فمع أول شعورٍ بالخطر والموت، أدرك أن التغير يعني الفقد، ومن هذه اللحظة بدأ يبحث عن وسيلةٍ لفهم حركة الحياة ومواجهتها. حين لاحظ الإنسان التكرار، بدأ وعيه بالزمن يتشكل في صورته الأولى. أدرك أن الأحداث لا تقع صدفة، بل تخضع لنظامٍ يمكن ملاحظته وتوقّعه. تعاقب الفصول، دوران القمر، تغيرات المناخ، كلها دلائل على انتظامٍ كونيٍّ يحكم الوجود. في هذه المرحلة، تحوّل الزمن إلى أداةٍ للفهم والتخطيط؛ صار الإنسان يربط بين ما مرّ وما سيأتي، فاستطاع أن يزرع وهو يتذكّر الموسم الماضي ويستعد لما بعده. هكذا ظهرت فكرة “الانتظار”، التي تمثل أول تجسيدٍ للعلاقة بين الإنسان والمستقبل. ومن هنا أيضًا بدأ العقل يتفوّق على الغريزة، وأصبح الوعي بالزمن خطوة نحو بناء التفكير المنطقي والسببي الذي أسّس للحضارة لاحقًا. إقرأ أيضاً دينا عبدالفتاح تكتب: هجرة الثروات من بريطانيا… لماذا بدأت؟ من غادر؟ وإلى أين تتجه الثروات الآن؟ جامعة النيل ومنتدى الخمسين يطلقان أول شراكة استراتيجية بين الجامعات والمجتمع المدني والقطاع الخاص لتمكين الشباب في وظائف المستقبل الإرهاق الخفي وحقيقة اللا وجود.. الإنسان الذي نسي أن يعيش! مع تشكّل المجتمعات الأولى، تحوّل الزمن إلى قاعدةٍ لتنظيم العلاقات. لم يعد مجرد شعورٍ شخصي، بل صار نظامًا مشتركًا يضبط حياة الجماعة. احتاج الناس إلى تقسيم الوقت لتوزيع العمل، وإلى تقويمٍ يحدّد الفصول للزراعة والعبادة والاحتفال. ومن هذه الحاجة وُلد الزمن الاجتماعي. ومعه بدأ ظهور المعايير الجماعية: الالتزام، الدقة، الموعد. أصبح الزمن مقياسًا للأخلاق والكفاءة، ووسيلةً لتقويم السلوك. ومن هنا بدأت السلطة الرمزية للوقت تتغلغل في الثقافة الإنسانية؛ فالذي يلتزم بوقته يُكافأ، والذي يتأخر يُحاسَب. كانت هذه هي اللحظة التي خرج فيها الزمن من التجربة الداخلية إلى النظام الخارجي الذي يقيس الإنسان بقدر توافقه معه. ثم جاءت الثورة الصناعية لتقلب المعادلة تمامًا. لم يعد الزمن نظامًا لتنظيم الحياة، بل صار البنية التي تقوم عليها. الآلة فرضت إيقاعها الجديد، فألغت الإيقاع الطبيعي للحياة. أصبح الإنسان يعمل وفق جدول الإنتاج لا وفق حاجته أو طاقته. الساعة التي كانت وسيلةً للانضباط تحوّلت إلى رمزٍ للمردود الاقتصادي. ومع هذا التحول فقد الزمن بُعده الإنساني، واكتسب بُعدًا ماديًا صارمًا. الكفاءة حلّت محل التوازن، والسرعة أصبحت معيار النجاح. هذه النقلة التاريخية أعادت صياغة علاقة الإنسان بالوقت، فانتقل من استخدامه كأداةٍ للتنظيم إلى العيش أسيرًا له، يطارده خوفًا من التأخير ويقيس نفسه بقدر ما أنجز لا بقدر ما فهم. في القرن العشرين، حين بدأت التقنية تتسلل إلى كل تفاصيل الحياة، تجاوز الإنسان الزمن الطبيعي ودخل زمنًا اصطناعيًا جديدًا. لم تعد الأيام تتحدد بشروق الشمس وغروبها، بل بإيقاع الأجهزة التي لا تتوقف. تحوّل العمل إلى حالة اتصالٍ دائم، وأصبح الفصل بين الحياة الشخصية والمهنية شبه مستحيل. ومع اتساع الفضاء الرقمي، نشأ زمن موازٍ لا بداية له ولا نهاية، زمن تعمل فيه الشبكات دون توقف ويعيش الإنسان داخله كمستخدمٍ أكثر مما يعيش ككائنٍ طبيعي. ظن أنه تحرر من قيود الجغرافيا والجسد، لكنه اكتشف أنه دخل دائرةً أكثر ضيقًا: دائرة الاتصال الدائم الذي لا يسمح بالانفصال. خرج من أسر الطبيعة ودخل أسر التقنية. ثم جاءت مرحلة الإرهاق العام. بعد عقودٍ من الركض المتواصل في دائرة الإنتاج والاستهلاك، بدأ الوعي البشري يُظهر أعراض الانهاك. أصبح القلق حالة جماعية، والأرق ظاهرة عالمية. تلاشت الحدود بين الراحة والعمل، ففقد الإنسان قدرته على الاستجمام كما فقد قدرته على الصمت. لم يعد الزمن أداةً لتنظيم الجهد، بل مصدرًا دائمًا للضغط. في هذه المرحلة ظهرت أمراض العصر: الاحتراق الذهني، فقدان المعنى، والفراغ الداخلي رغم الوفرة. لقد دخل الإنسان عصر التعب المزمن، حيث أصبحت السرعة قيمة في ذاتها، وانفصلت عن أي غاية أو ضرورة. بعد هذا المسار الطويل من التطور، لم يعد الزمن مجرد خلفيةٍ للحياة، بل أصبح أحد مكوّناتها الأكثر اضطرابًا. فالتغير الذي أصاب وعي الإنسان عبر المراحل السبع انعكس على البنية الكونية ذاتها، لأن الزمن ليس نظامًا منفصلًا عن الإنسان، بل جزء من وعيه الجماعي. حين اختلّ الإيقاع الداخلي للبشر، اختلّ الإيقاع العام للعالم. فوضى المناخ، التوتر السياسي، والتشتت الاجتماعي ليست ظواهر منعزلة، بل وجوه مختلفة لخللٍ واحد في علاقة الإنسان بزمنه. لقد فقدت الحضارة الحديثة قدرتها على التناغم مع إيقاع الكون، لأن الإنسان لم يعد يتعامل مع الزمن كوسيلة للفهم، بل كقوةٍ يجب أن يسبقها أو ينتصر عليها. في هذه اللحظة التاريخية، يمكن القول إن الزمن نفسه أصبح جزءًا من اهتزاز الكون. لم يعد الإيقاع الكوني متناسقًا، لأن المكون الإنساني فيه لم يعد يعمل بتردده الطبيعي. الإنسان لم يختلّ فقط في إدارته لوقته، بل في فهمه لدور الزمن في تشكيل الوعي الكوني. كلما سارع أكثر في إنتاجه وقراراته، فقد قدرته على الإصغاء لما يحدث حوله. والنتيجة أن الكون كله أصبح في حالة توتر مستمر، كما لو أن الزمن فقد توازنه لأن صانعه فقد وعيه به. ومع ذلك، لا يزال هناك طريق للنجاة. فالتاجون الحقيقيون من هذا العدم ليسوا أولئك الذين يهربون من الزمن أو يحاولون تجاوزه، بل الذين يعيدون اكتشافه من جديد بوصفه لغةً للتحاور مع الكون. هؤلاء يدركون أن الزمن ليس ساحة سباق، بل مجال وعيٍ يربط الإنسان بما حوله. يتعلمون كيف يستعيدون الإيقاع الطبيعي للحياة: أن يعملوا دون أن ينسوا الراحة، وأن يتأملوا دون أن يتوقفوا عن الفعل، وأن يقيسوا الزمن بما يضيفونه من معنى لا بما ينجزونه من مهام. حين يدرك الإنسان هذا، يعود الزمن إلى مكانه الأصلي كجسرٍ بين الوعي والكون. فبدل أن يكون مصدر اضطراب، يصبح وسيلة للتناغم. عندها فقط يستعيد الإنسان قدرته على الإصغاء إلى إيقاع الحياة، ويفهم أن الكون لا يطلب منه أن يسيطر عليه، بل أن ينسجم معه. الناجون من العدم هم الذين تعلّموا هذا الدرس، وأعادوا تعريف الزمن كأداةٍ للفهم لا كأداةٍ للحساب. إنهم الذين أدركوا أن الاتزان مع الزمن هو الشرط الأول للسلام مع الوجود، وأن الإنصات إلى الكون يبدأ من الإصغاء إلى إيقاع الوقت في داخلنا اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/9id1 الإعلامية دينا عبدالفتاحالناجون من العدممقالات دينا عبد الفتاح