دينا عبدالفتاح تكتب: الناجون من العدم – الجزء الأول: ماذا يحدث في الكون؟ بواسطة دينا عبد الفتاح 20 أكتوبر 2025 | 9:13 ص كتب دينا عبد الفتاح 20 أكتوبر 2025 | 9:13 ص النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 381 لا شيء يختفي في هذا الكون، فكل ما يحدث هو إعادة ترتيبٍ للطاقة في صورٍ جديدة. وحين يتبدّل إيقاع الكون، يتبدّل معه الوعي الذي يحاول الإنسان أن يقرأه. العالم لا ينهار كما تبدو الصورة، بل يعيد تنظيم نفسه في العمق، كجسدٍ يبدّل خلاياه دون أن يغيّر جلده. ما نعيشه اليوم ليس أزماتٍ منفصلة، بل اهتزاز شامل يشمل السياسة والاقتصاد والمناخ والتكنولوجيا والوعي الإنساني معًا. كل منظومة تؤثر في الأخرى، وكل مجال يعكس اضطراب ما حوله. لم نعد نعيش زمن الأزمات المحدودة، بل زمن التراكب والتفاعل، حيث تتغذّى الأنظمة على اضطراباتها كما لو كانت كائنًا واحدًا يعيد بناء ذاته من الداخل. إقرأ أيضاً الناجون من العدم – الجزء الثالث: السياسة.. الفوضى كأداة إدارة دينا عبدالفتاح تكتب: الناجون من العدم- الجزء الثاني: الزمن أول درس مهم تعلمه الإنسان وأكبر خصم له دينا عبدالفتاح تكتب: مستقبل لبنان سؤالٌ وجوديّ أكثر منه سياسياً لقد دخل العالم مرحلة تسارع غير مسبوقة. الزمن فقد خطّيته القديمة؛ لم يعد يتقدّم بهدوء، بل يلتف حول نفسه. الحاضر صار أكثر امتلاءً من أن يُحتوى، ومع تسارع الإيقاع فقد الإنسان قدرته على التوقّف والتأمل. كل خطوةٍ إلى الأمام تتطلب جهدًا مضاعفًا للوعي كي يظل حاضرًا في هذا الطوفان من التغيير. الإنسان يعيش في عالمٍ يتحرك أسرع مما يستطيع فهمه، وحين يعجز عن الفهم، يكتفي بالمجاراة. في السياسة، تراجعت المبادئ أمام منطق المصلحة. القرارات لا تُصنع بدافع القيم، بل بدافع المكسب. السياسة الحديثة تُدار بعقلٍ براجماتي يوازن بين المخاطر والعوائد، ولا يكترث كثيرًا بمفاهيم العدالة أو حقوق الشعوب. التحالفات تتغير بسرعة المصالح، واللغة السياسية أصبحت أكثر تقنيةً واحترافًا، لكنها أبعد عن الإنسان. ما يُقال في العلن عن الحرية وحقوق التعبير لا يشبه ما يُمارس في الواقع، حيث تتحكم شبكات المصالح في اتجاه القرار. إنها إدارة دقيقة للمكاسب تُغلَّف بخطاباتٍ مثالية تُستخدم لتجميل واقعٍ يقوم على الهيمنة والتوازنات. وفي الاقتصاد، تغيّر مركز الثقل بالكامل. لم تعد الثروة تُقاس بالإنتاج، بل بالقدرة على السيطرة على تدفق البيانات والموارد. الرأسمالية المعاصرة أعادت صياغة العالم ليصبح كل فردٍ فيه مستخدمًا أو مستهلكًا أو موظفًا. المعادلة قائمة على إبقاء الدخل أقل من الرغبات حتى يظل الإنسان في دائرة العمل والاستهلاك بلا توقف. إنها عبودية ناعمة لا تُفرض بالقوة، بل تُدار بالإقناع والعادة. يتعلّم الفرد أن يشتري ما لا يحتاجه، ويقيس قيمته بما يملك لا بما يفكر. الوعي الجمعي خضع لعملية إعادة تشكيلٍ عميقة؛ صار الاستهلاك بديلاً عن الانتماء، والسوق هي المرجعية التي تحدد معنى النجاح. هذا المنطق لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى الدول. فالدول الكبرى التي تملك رأس المال والتكنولوجيا تحوّلت إلى مراكز تحكمٍ في النظام الاقتصادي العالمي، بينما دفعت الدول النامية إلى موقع “العمّال” في تلك المنظومة — تنتج المواد الخام وتستهلك السلع النهائية. هكذا نشأ شكلٌ جديد من الاستعمار، لا يحتاج إلى جيوشٍ أو أعلام، بل إلى قروضٍ واتفاقياتٍ وشروطٍ مسبقة. القروض هي السلاسل الحديثة، والمؤسسات المالية الدولية هي أدوات السيطرة الناعمة. الاقتصاد أصبح وسيلة نفوذٍ سياسي تُدار به الولاءات وتُحدَّد به مساحة الحركة للدول الفقيرة. هو استعمار جديد بلغة الأرقام والنسب والفوائد، يحكم العالم من خلال حاجته الدائمة إلى “النمو” الموجّه. ومع الثورة الرقمية، دخلت الرأسمالية مرحلة جديدة من السيطرة. فالتطور التكنولوجي منحها أداةً عالمية تمتد بلا حدود. لم يعد الموظفون يعملون في المصانع، بل عبر الشاشات. ولم يعد المستهلك يعيش في السوق، بل السوق تعيش داخله. أصبح العمل رقميًا، والشراء رقميًا، والمال رقميًا. المنظومات الرقمية جعلت العالم كله سوقًا واحدة يديرها مركز محدود من القوى المالية والتقنية. بذلك، انتقلت السيطرة من الجغرافيا إلى الشبكة، ومن السلطة التقليدية إلى من يملك مفاتيح المنصات وأنظمة الدفع والمعرفة. التكنولوجيا لم تقرّب المسافات فقط، بل نزعت الخصوصية، وفتحت المجال أمام سيطرةٍ دقيقة على السلوك الإنساني. ومثلما اخترع ألفريد نوبل الديناميت ليشقّ الجبال فاستُخدم في الحروب، وكما اكتشف الإنسان الطاقة النووية لتوليد الكهرباء فحوّلها إلى سلاحٍ يهدد العالم، فإن التكنولوجيا التي صُنعت لتقريب البعيد أصبحت أداة هيمنةٍ جديدة. من يمتلك مفاتيحها يستطيع أن يعزل العالم أو يشله بكبسة زر. القوة لم تعد في السلاح، بل في القدرة على إيقاف أنظمة الاتصال أو تعطيل اقتصاداتٍ كاملة في لحظة واحدة. إنها سيطرة دقيقة واحترافية تمارسها أقلية تمتلك المعرفة التقنية، وتحكم الكوكب من وراء الشاشات. الهيمنة أصبحت غير مرئية، سلاحها هو المعلومة، وضحاياها هم من يعيشون داخل النظام الرقمي دون أن يملكوا الخروج منه. وفي ظل كل هذا، لم يعد المناخ مجرد قضية بيئية، بل تحوّل إلى مرآة أخلاقية للنظام العالمي. الدول الكبرى التي سببت الكارثة البيئية تدير اليوم “اقتصاد الإنقاذ”، تفرض على غيرها معايير خضراء لا تلتزم هي بها. تنقل مصانعها الملوِّثة إلى دولٍ فقيرة، وتقدّم نفسها كحارسٍ للبيئة وهي تستثمر في بيع حلولها. حتى مؤتمرات المناخ تحوّلت إلى أسواقٍ للفرص الاقتصادية تحت لافتة “الاستدامة”. النظام الذي استنزف الكوكب يسعى الآن للربح من إنقاذه. كل أزمة بيئية تُحوّل إلى سوقٍ جديدة، وكل شعارٍ بيئي يصبح وسيلة لتوسيع النفوذ. المناخ لم يعد مسألة طقس، بل مسألة سلطة. هذه التحولات كلها انعكست على الوعي الإنساني. الإنسان الذي صنع كل هذه الأدوات ليُحسن بها حياته، أصبح يعيش داخلها أسيرًا لإيقاعها. تقدّم في المعرفة وفقد المعنى. تضاعفت قدرته على التواصل، وتقلّصت مساحة وعيه الحقيقي. يعرف ما يحدث في كل مكان، لكنه لا يفهم ما يحدث داخله. يعيش في واقعٍ رقميٍّ متصل، لكنه أكثر عزلة من أي وقتٍ مضى. انكمش التأمل أمام السرعة، وتراجع التفكير أمام تدفق الصور. لم تعد المعرفة تقوده إلى الحكمة، بل إلى تشتيتٍ لا ينتهي. لقد فقد الإنسان إحساسه بالمأساة. الموت لم يعد تجربة وجودية، بل حدثٌ بصري يُستهلك مثل أي مادةٍ أخرى. تكرار المشهد أفقده هيبته، وتراكم الصور أفقدها أثرها. تحوّل الحزن إلى عادةٍ بصرية، واختفى الضمير الجمعي تحت ضغط الاعتياد والسرعة. وهكذا دخل الإنسان عصر “اللاوعي المنظم”: نشط طوال الوقت، لكنه نادرًا ما يفكر. يمتلك كل الأدوات للوصول إلى المعلومة، لكن القليل من القدرة على إدراك المعنى. الضجيج الخارجي غطّى على صوته الداخلي، والتقدم التقني لم يمنحه وضوحًا، بل مزيدًا من التشتت. لقد امتلك الوسائل لفهم العالم، لكنه نسي كيف يفهم نفسه. ورغم ذلك، يظل هناك ضوء في هذا المشهد. جيلٌ جديد بدأ يدرك أن الحرية لا تعني امتلاك الأدوات، بل امتلاك الوعي الذي يوجّهها. بدأ يفهم أن التغيير لا يبدأ من الشارع، بل من الداخل، وأن الثورة الحقيقية هي ثورة الوعي قبل أي شيء آخر. حين يتصالح الإنسان مع نفسه، يستعيد قدرته على الفهم، وحين يفهم، يبدأ أول الطريق نحو النجاة اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/gnoc الناجون من العدممقالات دينا عبد الفتاح