دينا عبدالفتاح تكتب: مستقبل لبنان سؤالٌ وجوديّ أكثر منه سياسياً سويسرا الشرق وطنٌ يتآكل بسبب المصالح الطائفية والإقليمية بواسطة دينا عبد الفتاح 8 أكتوبر 2025 | 3:45 م كتب دينا عبد الفتاح 8 أكتوبر 2025 | 3:45 م النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 24 زمنُ الموت: إما أن يُخترق ببطل قومي ورؤية موحَّدة أو يقضي على البلاد لبنان اليوم يقف عند حافة الهاوية، لا بفعل كارثة واحدة، بل نتيجة تراكمٍ طويل من الانهيارات التي نخرت جسد الدولة وأضعفت روحها وشتّتت ولاء أبنائها. ما يعيشه هذا البلد ليس أزمة مالية أو سياسية عابرة، بل تحلل بطيء لبنية الدولة وللفكرة التي قامت عليها. كلّ ركنٍ من أركان الكيان اللبناني — السياسة، الاقتصاد، القضاء، الإدارة، الجيش، والهوية — يعاني من هشاشة غير مسبوقة تجعل من السؤال عن مستقبل لبنان سؤالًا وجوديًا قبل أن يكون سياسيًا. إقرأ أيضاً دينا عبدالفتاح تكتب: اليوم.. ستوكهولم تعلن أسماء الفائزين بجوائز نوبل دينا عبدالفتاح تكتب: بعد خفض سعر الفائدة.. مصر تفتح الباب أمام الاستثمار والنمو دينا عبدالفتاح تكتب: في الصراع على الميّه والأكل.. مين الأحق؟ منذ اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية، فشل لبنان في الانتقال من نظام المحاصصة الطائفية إلى دولة المواطنة. تحوّل “التوازن الطائفي” إلى نظام محاصصة دائمة يتقاسم فيه الزعماء السلطة والموارد كغنيمةٍ تُدار لا كمسؤوليةٍ وطنية. صارت الدولة تُدار بمنطق توزيع المنافع، لا ببوصلة المصلحة العامة. وهكذا وُلدت دولة شكلية قائمة شكلاً ومشلولة مضمونًا، تحكمها شبكات مصالح تحافظ على هشاشتها كي تضمن استمرارها. المؤسسات الرسمية قائمة، لكنها عاجزة. الجيش محدود الصلاحيات أمام قوى مسلّحة خارج سلطة الدولة، والقضاء مسيّس، والمصرف المركزي غارق في الديون والارتهان، والإدارة العامة مشلولة بالفساد والمحسوبيات. المواطن، الذي كان يراهن على الدولة كحاميةٍ له، أصبح يتعامل معها بوصفها عبئًا ثقيلًا لا سندًا. تحوّل العقد الاجتماعي إلى علاقة تبعية للطائفة بدل أن يكون رابطة حقوق وواجبات مع الدولة. الأزمة المالية التي تفجّرت عام 2019 كشفت هشاشة النموذج الاقتصادي اللبناني. الليرة فقدت أكثر من 98% من قيمتها، والمصارف بدّدت أموال المودعين بتمويلها فساد السلطة، ثم أقفلت أبوابها في وجههم. تراجعت قدرة الدولة على سداد ديونها، فانهار اقتصاد الخدمات والتحويلات الذي كان يعيش على الريع لا الإنتاج. انهارت الطبقة الوسطى التي شكّلت على مدى عقود العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي، وتحوّل المجتمع إلى فئتين: أقلية تمتلك المال بالدولار وتعيش في عزلةٍ مريحة، وأغلبية مسحوقة تعيش بالليرة المنهارة. الفقر دفع الناس مجددًا إلى أحضان زعمائهم الطائفيين الذين يعوضونهم بالمساعدات مقابل الولاء. ومع تراجع التعليم والصحة والطاقة، أصبحت الخدمات امتيازًا تُمنح بالواسطة، لا حقًا من حقوق المواطنة. إنّ أخطر ما أصاب لبنان ليس الانهيار المادي بل انهيار الثقة. فحين يفقد المواطن ثقته بدولته، يتفكك الرابط الذي يجمع المجتمع، وتنهار الفكرة الوطنية. لم يعد اللبناني يؤمن بأنّ هناك سلطةً قادرة أو راغبة في إنقاذه، ولا مؤسسةً تستحق الاحترام. وهنا يظهر الانهيار في صورته الكاملة: دولة قائمة على الورق فقط. الهجرة الواسعة التي يشهدها لبنان منذ 2019 تُعدّ الوجه الإنساني لهذا الانهيار. فقد غادر مئات الآلاف من الشباب وأصحاب الكفاءات، وهاجر معهم الأمل بالنهضة. الأطباء والمهندسون والأساتذة تركوا مؤسساتهم، ما جعل البلاد تفقد أعزّ مواردها: العقل البشري. ومع كل جيلٍ يغادر، يتقلّص احتمال التعافي لأنّ الدولة تفقد طاقتها على التجديد الذاتي. سياسيًا، يعيش لبنان فراغًا دائمًا في القرار. الحكومات تُشكَّل بصعوبة وتتعطل بسهولة، والرئاسة تُشغر لسنوات، والبرلمان يتحول إلى ساحة تجاذبٍ عقيم. النظام السياسي عالق بين الحياة والموت، يعيش على التسويات المؤقتة، ويستهلك الأزمات بدل أن يحلّها. أما الفساد، فقد أصبح نظام حكمٍ بحد ذاته؛ يوزّع الغنائم بين الأطراف ليضمن توازنهم واستمرارهم، فلا أحد يملك مصلحةً في الإصلاح لأنه يهدد شبكة المنافع التي تحكم الجميع. وفي ظل هذا الاضمحلال المؤسسي، تآكل مفهوم السيادة. فالبلاد أصبحت ملعبًا لصراعات النفوذ الإقليمي. لكلّ طرفٍ خارجي حلفاء في الداخل، ولكلّ طائفةٍ مظلة خارجية تحميها. تداخلت الولاءات حتى صار القرار الوطني نتاج تقاطعٍ إقليمي لا تعبيرًا عن إرادة داخلية. النتيجة أنّ الدولة فقدت احتكار القوة، وفقدت القدرة على إعلان الحرب أو التزام الحياد، وأصبح لبنان بلدًا يعيش بين السيادات المتنازعة. أما المجتمع، فقد انقسم على ذاته. التنوّع الذي كان مصدر ثراءٍ للبنان تحوّل إلى انقسامٍ في الذاكرة والرؤية والهوية. كلّ طائفةٍ تمتلك روايتها الخاصة للتاريخ، ومدارسها تُكرّس هذه الفوارق، وإعلامها يُعيد إنتاجها يوميًا. لم تعد هناك رواية لبنانية مشتركة، بل روايات متنافرة تتقاطع فقط في الجغرافيا. ومع تآكل الهوية الوطنية، تفقد الدولة معناها وتتحول الأرض إلى مجرد مساحة سكنٍ لا وطنٍ جامع. يواجه لبنان اليوم ثلاثة مسارات محتملة. الأول هو الانهيار البطيء، حيث يستمر البلد في التدهور دون انفجارٍ شامل، فيعيش الناس على أنقاض دولةٍ فقدت القدرة على النهوض. الثاني هو الانفجار الاجتماعي، حين يبلغ الغضب ذروته وينفجر الفقر في وجه الطبقة السياسية، لكن ذلك قد يؤدي إلى فوضى بلا أفق. أما الثالث، وهو الأصعب والأكثر أملًا، فهو إعادة التكوين الوطني: ولادة عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف الدولة على أساس المواطنة لا الطائفة، ويؤسس لمرحلة حكمٍ مدنيٍ رشيد. إلا أنّ هذا الخيار يتطلب شجاعة نادرة وإرادة جماعية تكسر قيود الماضي. إنّ ما يحدث في لبنان لا يهدد اللبنانيين وحدهم، بل ينعكس على المشرق العربي كله. فكل اضطرابٍ لبناني يولّد موجات هجرةٍ جديدة، ويغذّي اقتصاد الظلّ وتهريب السلاح والمخدرات، ويقضي على آخر رموز التنوّع والحوار في المنطقة. إنّ سقوط لبنان الثقافي والسياسي يعني سقوط أحد أعمدة التوازن العربي. في النهاية، لا يحتاج لبنان إلى دعمٍ مالي بقدر حاجته إلى ثورة فكرية ومؤسساتية تعيد بناء مفهوم الدولة. الإنقاذ الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من الداخل: من إعادة الاعتبار للمواطنة، وللقانون، وللعدالة، وللوطن كفكرة جامعة. إما أن يختار اللبنانيون نهضةً مؤلمة تنقذ دولتهم، وإما أن يستسلموا لزمنٍ يُعيدهم إلى ما قبل الدولة الحديثة. وإذا استمرّ هذا التآكل من دون وعيٍ وإرادة، فقد يأتي يومٌ يُقال فيه إنّ لبنان لم يُهزم بالحرب، بل انتحر ببطءٍ تحت وطأة عجزه عن أن يكون وطنًا لجميع أبنائه. اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/5qzu أزمة لبنانالهجرة من لبنانحرب لبنانمقالات دينا عبد الفتاح