دينا عبدالفتاح تكتب: استثمار أجنبي أم استعمار ناعم؟ الوجه الخفي لحركة الأموال الآن بواسطة دينا عبد الفتاح 25 سبتمبر 2025 | 1:11 ص كتب دينا عبد الفتاح 25 سبتمبر 2025 | 1:11 ص دينا عبد الفتاح النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 0 من الاتصالات إلى العلاج والتعليم… كيف تتحول الاحتياجات الأساسية إلى أرباح تهاجر للخارج؟ منذ عقود طويلة ارتبطت صورة الاستثمار الأجنبي المباشر في أذهان الشعوب والحكومات بوعود التنمية والانفتاح والازدهار. وكان يُقدَّم باعتباره الحل السحري: تدخل الأموال، وتُبنى المشروعات، وتُنقل التكنولوجيا، وتُفتح الأسواق، ويصعد مستوى المعيشة. لكن مع تراكم التجارب تبيّن أن الصورة ليست بهذه البساطة؛ فهناك استثمار أجنبي حقيقي يبني المصانع، ويخلق الوظائف، وينقل التكنولوجيا، ويضيف للاقتصاد الوطني، وهناك أيضًا ما يمكن وصفه بالاستعمار الناعم، الذي يدخل متخفيًا في ثوب الاستثمار، لكنه في الحقيقة يستنزف الموارد، ويقتطع من دخول الشعوب، ويضعف السيادة الاقتصادية للدول. الاستثمار الحقيقي يختلف في جوهره عن الاستعمار الناعم، لأنه استثمار يضيف للدولة قدرة إنتاجية جديدة. حين يأتي رأس المال الأجنبي لإنشاء مصانع، أو لتأسيس خطوط إنتاج، أو لإطلاق مشروعات تكنولوجية، فإنه يخلق قيمة مستدامة: وظائف محلية، وصادرات جديدة، وخبرات وطنية، وتكنولوجيا منقولة. هذا النوع من الاستثمار يبني قاعدة اقتصادية ترفع الدولة في موقعها داخل سلاسل القيمة العالمية. أما الاستعمار الناعم فهو الوجه المظلم: استثمار لا يضيف شيئًا، بل يقتطع من ثروات الدولة حين يسيطر على مناجمها ومواردها الطبيعية، ومن أصولها حين يشتري موانئها ومطاراتها، ومن شعبها حين يحوّله إلى عمالة رخيصة بلا حماية، أو حين يستنزف قوته الشرائية عبر خدمات أساسية كالطب والتعليم والاتصالات. والنتيجة أن الأرباح تخرج إلى الخارج، بينما تبقى الدولة أضعف مما كانت. إقرأ أيضاً دينا عبدالفتاح تكتب: المطارات تُموَّل من جيوب المواطنين.. فهل تُعطيهم حقهم؟ دينا عبدالفتاح تكتب: محمد بن سلمان.. «المتمرد» دينا عبدالفتاح تكتب: تحويلات المصريين بالخارج تقفز خلال 10 سنوات من 17 مليارا إلى 36.5 مليار دولار هذه التناقضات ليست وليدة اللحظة، فالاستعمار الناعم ليس ظاهرة جديدة بل هو أسلوب متجدد ظل يتكرر عبر العقود والقرون بأشكال مختلفة. الاستثمار الأجنبي حين يفقد طابعه الإنتاجي ويتحول إلى أداة للهيمنة على الموارد أو لاستنزاف الشعوب، يصبح امتدادًا لأساليب الاحتلال القديمة ولكن بواجهة مالية أنيقة. ومن استطاع أن يتفادى هذا المصير هو من بنى قاعدة صناعية قوية تحميه وتصعد به إلى مصاف القوى الاقتصادية، أما من وقع في شباكه فقد انحدر إلى القاع وبقي تابعًا لغيره. الأزمات تفضح الفارق بين الدول التي تبني قوتها وتلك التي ترهن مستقبلها وتبقى تجارب الدول أوضح دليل على أن الاستثمار يمكن أن يكون طريقًا لبناء قوة أو مدخلًا للاستنزاف والضعف. كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، خرجت من الحرب فقيرة لكنها ركزت على الصناعة الثقيلة والإلكترونيات، فصنعت علامات عالمية مثل سامسونغ وهيونداي، وصارت من أكبر عشرة اقتصادات في العالم. فيتنام اتبعت النهج نفسه، فاستقبلت استثمارات صناعية بعشرات المليارات من شركات كبرى مثل أبل وسامسونغ، وأصبحت مصنعًا بديلاً للصين ومركزًا عالميًا للإلكترونيات والمنسوجات. الصين عبر التصنيع تجاوزت حدود النمو المحلي، حتى صارت تسيطر على أكثر من 70٪ من إنتاج المعادن النادرة، وهو ما منحها نفوذًا استراتيجيًا في التكنولوجيا العالمية. السعودية اعتمدت على استثماراتها في النفط عبر أرامكو لتصبح لاعبًا رئيسيًا في تحديد أسعار الطاقة عالميًا. النرويج استثمرت عوائد النفط في صندوق سيادي أصبح الأكبر في العالم، فتحولت إلى قوة مالية تستثمر في كل مكان. وفي المقابل تكشف الأزمات دومًا عن الفارق بين من استثمر في الصناعة ومن ارتهن للاستثمارات الهشة. الأزمة المالية العالمية عام 2008 مثلًا كانت فرصة للصين لتوسع نفوذها الصناعي، بينما كانت كارثة على الاقتصادات التي اعتمدت على العقار والديون. والأزمة الآسيوية عام 1997 أجبرت كوريا وماليزيا على إعادة هيكلة اقتصاداتها، فخرجت أقوى وأكثر قدرة على الصمود. أما دول مثل إسبانيا التي اعتمدت على العقار، أو اليونان التي اضطرت إلى بيع أصولها السيادية، أو الكونغو الديمقراطية التي تركت مناجم الكوبالت تحت سيطرة الأجانب، أو الأرجنتين التي رهنت مواردها الزراعية لشركات عالمية، فقد انتهت إلى التبعية والضعف. هذه النماذج جميعها، الناجحة والفاشلة، تؤكد أن الأنماط تتكرر: من يوجّه الاستثمارات إلى الصناعة والطاقة والتكنولوجيا يخرج أقوى وأكثر استقلالًا، ومن يتركها حبيسة العقار أو الاستهلاك أو بيع الموارد ينتهي تابعًا ضعيفًا. أما أدوات الاستعمار الناعم فتظهر بوضوح حين يوجَّه رأس المال الأجنبي إلى أنشطة لا تضيف إنتاجًا محليًا. من أبرز هذه الأدوات ضخ الأموال في العقار لرفع أسعار الأراضي وتجميد الثروة في أصول غير منتجة، والاكتفاء بتصدير الموارد الطبيعية خامًا مع ترك التصنيع للخارج، وبيع الأصول السيادية مثل الموانئ والمطارات والشركات الوطنية، وهو ما يوفر سيولة قصيرة الأمد لكنه ينتقص من السيادة الاقتصادية. غير أن أخطر هذه الأدوات وأكثرها تأثيرًا على حياة المواطنين هو السيطرة على الخدمات الأساسية. من أصحاب موارد إلى عمالة منخفضة التكلفة… هكذا يعيد الاستعمار الاقتصادي تشكيل الشعوب قطاعات مثل الاتصالات والصحة والتعليم تبدو في ظاهرها استثمارات تخدم المجتمع، لكنها في حقيقتها تتحول إلى قنوات ثابتة ومستمرة لشفط القوة الشرائية للمواطنين وتحويلها إلى أرباح خارجية. ففي الاتصالات مثلًا، كل مكالمة وكل رسالة وكل خدمة إنترنت يدفع المواطن ثمنها تتحول إلى أرباح تُحوَّل إلى الخارج. وفي الصحة، عندما يمتلك المستثمرون الأجانب مستشفيات أو مشروعات علاجية، فإن تكاليف العلاج التي يدفعها المواطن تتحول إلى أرباح خارجية بدلًا من أن تُعاد استثمارها في تطوير النظام الصحي المحلي. وفي التعليم، حين تملك جهات أجنبية المدارس والجامعات الخاصة، فإن أقساط الأسر تخرج كعائدات لا تُعاد إلى النظام التعليمي الوطني. والخطورة هنا أن هذه القطاعات لا يمكن الاستغناء عنها، فهي أساسية ومرتبطة بحقوق الحياة. الأرباح فيها مضمونة، والنتيجة أن الدورة الاقتصادية الوطنية تنكسر: المواطن يستهلك ويدفع من دخله، لكن الأموال لا تدور داخل الاقتصاد الوطني، بل تُسحب منه باستمرار. وبمرور الوقت يتحول هذا النمط إلى استنزاف دائم، لأنه على عكس الاستثمار في مصنع أو مشروع صناعي يمكن أن ينقل تكنولوجيا أو يخلق صادرات، فإن الاستثمار في الخدمات الأساسية يضمن أرباحًا ثابتة للمستثمر الأجنبي ويُفقِد الاقتصاد الوطني جزءًا من دمائه. وهكذا تتحول الخدمات إلى ماكينات شفط مستمرة، تكسر الدورة الاقتصادية من الداخل وتُفقِر الطبقة الوسطى عامًا بعد عام. وأي سوق يتمتع بقوة شرائية كبيرة يتحول تلقائيًا إلى مطمع للمستثمرين الأجانب. فالشركات العالمية حين تضيق أسواقها المحلية أو تتشبع تبحث عن أسواق جديدة توسع أرباحها. وهذه الأسواق ليست مطمعًا لزيادة الإنتاج، بل لاستغلال ما لدى المواطنين من قدرة استهلاكية. وهنا يتحول الشعب إلى زبون مضمون، وتتحول السوق إلى قناة لتدفق الأرباح إلى الخارج. وفي عالم اليوم، ومع التوظيفات المالية الضخمة العابرة للحدود، فإن الرسالة الأهم هي أن الدول التي لا تضع استراتيجيات واضحة لتوجيه الاستثمارات الأجنبية نحو الصناعة والتكنولوجيا والطاقة النظيفة مرشحة لتكرار نفس المصير: أسواق استهلاكية مستنزفة أو مستودعات موارد تُدار لمصلحة الخارج. وهنا تظهر مسؤولية الحكومات. فالاستثمار يجب أن يُعامل كوسيلة لا كغاية. فإذا جاء لبناء مصانع وتطوير مهارات محلية فهو استثمار حقيقي. وإذا جاء ليستنزف الموارد أو يحتكر الخدمات فهو استعمار ناعم. القوانين مطالبة بفرض شروط على المحتوى المحلي ونقل التكنولوجيا. الإعلام يجب أن يوعي الشعوب بالفارق. المجالس النيابية يجب أن تراقب وتحمي السيادة الاقتصادية. والخطر الأكبر أن هذا الاستعمار الناعم يتسرب ببطء، بلا أعلام ولا إعلان. لكنه ينهك الدولة بتحويل شعوبها إلى عمالة رخيصة، وخدماتها الأساسية إلى قنوات استنزاف. ومع مرور الوقت يُفقِر الطبقة الوسطى، ويهدد الاستقرار الاجتماعي، ويغير التوازنات الديموغرافية عبر دفع الناس للهجرة أو تركيز الثروة في يد قلة مرتبطة بالأجانب. الاستثمار الأجنبي إذن ليس خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا، بل أداة. إذا استُخدم في الصناعة والإنتاج بنى قوة. وإذا تُرك ليستنزف الموارد والدخول تحول إلى استعمار ناعم بواجهة الاستثمار. اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/02qy الإعلامية دينا عبد الفتاحالاستثمار الاجنبي المباشرمقالات دينا عبد الفتاح