أعمده ومقالات المهرجان القومي لأبي العظماء السبعة بواسطة فاطمة ناعوت 20 أغسطس 2019 | 10:09 ص كتب فاطمة ناعوت 20 أغسطس 2019 | 10:09 ص النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 0 فى قديم الزمان، كان هناك أشقاءُ ستّةٌ: وجوهُهم نورٌ، دماؤهم خيوطٌ من الضياء، قلوبُهم من رحيق الزهر، وأجسادُهم من نسيج اللون والنغم. تفرّق الأشقاءُ إلى قسمين، فذهب كلُّ ثلاثةٍ فى طريق. وجعلوا من الشقيقة الكبرى أمًّا، واتخذوا الشقيقَ الأكبر لهم أبًا. إنها عائلة «الفنون الرفيعة». رسم الإغريقُ الأوائلُ ملامحَ أفرادِ «العائلة السداسية» على النحو التالى: [المسرح – الموسيقى- الشعر- العمارة- النحت- الرسم]. وفى تلك العائلة الحسناء الثرية، اعتبر فلاسفةُ الإغريق أن «المسرح» صُلبُ العائلة لهذا نقول (المسرحَ أبوالفنون)، وأن «العمارةَ» تاجُها، فنقول (العمارةَ أمُّ الفنون). وانقسمت العائلة السداسية فى لحظة تأمل ودراسة، إلى مجموعتين ثلاثيتين ظَرْفيتيْن: (ظرف مكانى، وظرف زمانى). المجموعة الأولى: تعتمدُ «الإيقاع المكانى». والمجموعة الثانية: تعتمدُ «الإيقاع الزمانى». تفرقت (العمارةُ والرسمُ والنحتُ) إلى حقل: «فنون المكان»، حيث: «إيقاعُ المكان»، بمعنى النِسَب والمسافات والأبعاد أو الكتلة والفراغ. وذهب (الشعرُ والموسيقى والمسرح) إلى حقل: «فنون الزمان» حيث الإيقاع الصوتى وتوقيعات الزمن، أو النغم والسكون. لكن، رغم ذلك، ظلّت هناك روابطُ وصلاتٌ وتداخلاتٌ قوية، تجمع بين الفريقين المنفصلين. هكذا انفصل الشعرُ عن العمارة، فصار أبناء عمومة بعدما كانا شقيقين، مثلما انفصلت الموسيقى عن النحت والتشكيل. لكن المسرحَ ظلَّ هو الجامعُ الأبدى لكل أشقائه الفنون الأخرى، حتى بعدما وُلِدَ الشقيقُ السابع: السينما. لأن على خشبته تلتقى الفنونُ جميعها، ويجتمعُ شملُ الأشقاء من جديد. ونحن اليوم، فى هذا الحفل الأسطورى الآسر، نجتمع على شرف ذلك الأب الجميل: المسرح. نجح الفنانُ المثقفُ «أحمد عبدالعزيز» فى جعل «المهرجان القومى للمسرح فى دورته الثانية عشرة» عُرسًا بهيًّا أعاد إلينا نوستالجيا عظماءَ قدّموا لنا فنًّا ثريًّا علّمنا الكثيرَ، إذ كان لنا مدرسةً تمتدُّ سنواتُ دراستها على آماد أعمارنا. قال رئيس المهرجان، فى كلمته الارتجالية المثقفة، إن «مصرَ تستحقُّ ما هو أجمل. ولن يكون هذا إلا بالعلم والعمل والفنون الراقية والمسرح على رأسها». وصدق قوله. فبناءُ مسرح لا يقل أهمية عن بناء مدرسة. فالمدرسة تعلّم الأطفالَ، والمسرحُ مدرسةٌ دائمة لتعليم الكبار ما فاتهم أن يتعلّموه فى المدارس وهم أطفال. لهذا قال قسطنطين ستانسيلافسكى: (أعطنى الخبزَ والمسرح، أُعطك شعبًا مثقفًا). فالخبزُ لعيش الجسد، والمسرح لحياة العقل والروح. الخبزُ يجعلنا «نعيش»، والمسرح يجعلنا «نحيا». الخبزُ دون مسرح، يضمن عَيشَنا، كما تعيش الدوابُّ والهوامُّ والقوارضُ. بينما المسرح يجعلنا كائناتٍ راقية تفكّر وتبتكر وتتطوّر وتحبُّ وتنهض بالمجتمع. فننتقل من خانة المستهلِك، إلى خانة المنتج، وهى الخانة العليا للإنسان. ولا شكَّ أن المِحَنَ الاقتصادية فى مرحلة النهوض الراهنة، ووجه الإرهاب الأسود الذى يتحيّن منّا غفلةً لينقض علينا بكامل قبحه، قد أرهقتنا. لكننا لم ننس أن الفنَّ هو الخيطُ الذى يخترقُ أعماقَنا فيُخرجُ منها «الهمجى» الفظَّ، ليستبدلَ به المتحضِّرَ النبيل. أؤمن أنه كلما أضيئت أنوارُ مسرح فى مكان، انطفأت جمرةُ إرهاب فى مكان آخر، وكلما فُتح ستار مسرح فى مكان ما، أُغلق بابٌ من أبواب الطائفية. وكلما دقَّت مطرقةٌ على خشبة مسرح دقات ثلاثًا إيذانا ببدء العرض، دقَّ فى الرأس ناقوسُ معرفة وسمو. الفن يُعطّل الجريمة، ويحارب الفساد والقبح والتخلف، لأنه يدرّب الإنسان على الإنصات إلى صوت الحق والخير والجمال. لم تخرج أوروبا من حقل الظلام القروسطى إلا بالفنون الجميلة وعلى رأسها المسرح، الذى هو أبُ الفنون، الذى تجتمع ألوان بقية الفنون فى محرابه. فإن أردت الحكم على مستوى التحضر والاستنارة لدى شعب، أو مستوى التخلّف والرجعية فيه، ليس عليك إلا أن تنظر إلى مسرحه لتقيّم مستوى شعبه، بل ولتعرف أيضًا إلى أين ذاهب ذلك الشعب، إلى النور، أم إلى الظلام. ويتساءلُ العالمُ كيف لا تنكسِرُ مصرُ رغم النصال تكسّرت على النصالِ فى خصرها إثر الثورات والإرهاب والمحن الاقتصادية؟ والإجابة تكمن فى الخيط الرفيع الذى حافظت عليه مصرُ منذُ نشأتها: الفنون الرفيعة. المسرحُ ليس رفاهيةً وترفًا، بل عقلُ المجتمع وضميرُه. المسرحُ ضمانةُ بقاء المجتمع، إن سقط المسرحُ ضَمَر عقلُ المجتمع، لأنه الظهير الذى يمنع نفاذ النصل إلى قلبه. ومصرُ حالٌ فريدة. لا تتوقّفُ مسارحُها حتى فى لحظات الحروب والإرهاب والكساد. بوسعك أن تصطحب أسرتك يوميًّا إلى أى مسرح من مسارح الدولة، لتشهدَ بجنيهات قليلة عرضًا ثريًّا. المسرح فى مصر هو نبضُ القلب الذى لا يتوقف، مهما توعّك الجسدُ. ذاك هو سرُّ مصر الخاص. «علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلقوا السجون»، كما قال أفلاطون. شكرًا لكل القائمين على هذا المهرجان الثرى. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن». اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/r8k2