بوق نذير: «أنتِ ماحساش بالناس»!

يقول الفلاسفةُ: «إن كنتَ تريد أن تعرفَ مقدار ثرائك، فأسقطْ دمعةً، ثم تأمل عددَ الأيادى التى امتدتْ لتمسح دمعتَك».

«بوقُ نذير» مخيفٌ، أطلقه صبيٌّ جنوبيٌّ فى وجوهنا جميعًا بعبارة صغيرة نحيلة موجزة موجعة. زلزلتنا العبارةُ القاسية: «أنتِ مَحَسْاشْ بينا!». صَدّعتْ أرواحَنا، وزعزعتْ يقينَنا الوهميَّ بأننا نحن- المصريين- مربوطةٌ قلوبُنا بحبل سُريٍّ واحد. أو أننا لبعضنا البعض: «كالبُنيان المرصوص يشُدُّ بعضُه بعضًا». أو أننا كـ: «مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهر والحمّى». هكذا علّمتنا الأدبياتُ الدينية: «الْمُؤْمنُ للْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشدُّ بعْضُهُ بَعْضًا»، «مَثَلُ المؤمنين فى تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضوٌ، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى. وغيرها من الأقوال التى يُردّدُها الشيوخُ على مسامعنا فى الفضائيات، فلا تتجاوزُ حلوقَهم، ثم يعودُ واحدُهم إلى قصرِه المنيف بسيارتِه الفارهة، ناسيًا أن كلمات الله والرُّسل ما شُرعَت إلا لِتُنفَّذ، لا لِتُقال.

العبارةُ قالَها صبيٌّ صغير خارجٌ عن القانون لمذيعة نسيت دورَها الإعلاميّ (الإخباريّ وفقط) وتحوّلت إلى مُحقّقٍ وقاضٍ وجلاّد، أصدرتِ الحكم على المتهم (البريء حتى تثبت إدانتُه)، ثم شرعت فى القصاص والجلد والتنكيل المعنوى. الصبيُّ متهمٌ بتهريب الملابس غير خالصة الجمارك، حتى يعود إلى أمّه وشقيقاته ببعض الجنيهات تقيمُ أودَهن وتستر أجسادَهن. ولستُ هنا بصدد تبرئة مخطئ فى حق وطن، أو إدانة مذيعة جاوزتها المهنيةُ فى «الإعلام بخبر»، إنما يعنينى تأمُّل فكرة: «هل يشعرُ أحدُنا بالآخر، فى هذا الوطن المأزوم بالأنامالية والأنانية وعدم الشعور بالمنعطف الدقيق الذى نمرُّ به للخروج من شرنقة التضخم والكساد والفجوات الطبقية الهائلة؟».. المشهدُ بين شخصين. الأول: طفلٌ تسرّب من التعليم، ونزح من سوهاج إلى بور سعيد، فاستغلّه نفرٌ من الحيتان السُّمان ليزداد ثراءً، جعل الصبيَّ يمارس أعمالاً غير قانونية فى تهريب الملابس حتى يعول أسرته، والثانى: مذيعةٌ وقعت على فريسة فى مصيدة. وضعت صيدَها فى خانة الأنا الدُنيا، واتخذت لنفسها دور الأنا العليا، فراحت تُمارس فيها ما يسميه علماء النفس: «التطّهر»، وهو أن نَغلُظ على المخطئ حتى نتبرأ من آثامنا الشخصية. سألتِ المذيعةُ الطفلَ: تقوم بالتهريب وتكسب مالا حرامًا، ولماذا لا تعمل فى الاستثمار؟ وإحقاقًا للحق يجب أن نوضّح معنى المفردة الذى استفزّت المشاهدين: الاستثمار، وهى منطقة صناعية فى مدينة بورسعيد تعمل فى تصنيع الملابس وتصديرها، وليس المقصود بها المصطلح الاقتصادى المعروف، والعسير على إدراك طفل صغير.

المحنةُ فى هذه القصة أكبرُ من قضية مذيعة غير مهنية، أو أطفال تُستغلُّ فى التهريب. المحنةُ هى أن هذا الطفلَ قد أطلق فى وجوهنا رصاصًا مُرّاً وسلَّط على عيوننا مرآة ميدوزا، لنرى قبحَنا وأدران مجتمعنا. نحن بصدد، أولا: أطفال يتسربون من التعليم، ويعولون آباءهم وأمهاتهم وشقيقاتهم، لأنهم فى عُرف الصعيد رجالة، كما قال الطفلُ حرفيًّا: «إحنا مش رجالة ولّا إيه؟». هذا الطفلُ الذى يعرف ما يقول كان من الممكن لو تعلّم أن يغدو فيلسوفًا أو سياسيًّا مهمّاً أو شاعرًا، أو حتى مواطنًا صالحًا مفيدًا لمجتمعه، بدلا من أن ينتهى به الحال مهرّبًا خلف القضبان. وثانيًا، وهو ما يعنينى فى هذا المقال، نحن بصدد فجوات طبقية تجعلُ أغنياءَ هذا الوطن جاهلين بحال فقرائه.

«أنتِ محساش بالناس»، عبارة قالها طفلٌ لا لمذيعة تجلده، بل لمجتمع بأسره تسبب فى خروجه عن القانون. هذا المقال موجّهٌ إلى وزير التعليم، ليصل بنا إلى نسبة التسرُّب من التعليم= صفرًا، وموجّه إلى المجلس الأعلى للأمومة والطفولة، ليبحث فى ظاهرة الأطفال المعيلين؛ فيُعيد للطفولة إشراقَها ويُعيد الأطفالَ إلى حدائقهم ومدراسهم، وموجّه إلى الشرفاء من أثرياء هذا الوطن، ليتعلّموا الدرسَ الرفيع الذى أطلقه رجل الأعمال مهندس نجيب ساويرس، حين أرسل محاميًا ليُدافع عن طفولة الأطفال المُهرّبين، ثم وجد لهم وظائفَ محترمة. وفى الأخير، موجّهٌ إلى روح القانون التى تُعلّمنا أن نساعد المخطئ على ردّه عن خطئه، والبحث فى أسباب خطئه، قبل أن نتلمّظَ فى عقابه والتشفّى منه. شكرًا لكل يد شريفة تمسح دموعَ الباكين. ويا عزيزتى المذيعة، هذا الطفل ليس ناقمًا، كما تظنين، إنما هو باكٍ حزين، وبالطبع خارج عن القانون.