غير مصنف فى مصر كان محمد حسنين هيكل بواسطة عمرو الشوبكي 22 فبراير 2016 | 1:03 م كتب عمرو الشوبكي 22 فبراير 2016 | 1:03 م النشر FacebookTwitterPinterestLinkedinWhatsappTelegramEmail 19 علاقتى بالأستاذ هيكل كانت علاقة إنسانية وفكرية لم ترتبط فى أى مرحلة بعلاقة عمل من أى نوع، فلم يتقاطع مسارى المهنى مع الأستاذ فى أى مرحلة فالرجل ترك الأهرام وأنا طالب فى ابتدائى والتحقت بمركز الأهرام للدراسات السياسية فى وقت كان هيكل من المغضوب عليهم من قبل قادة المؤسسات الصحفية الحكومية، ومع ذلك أزعم أنى كنت واحدا من القريبين من الرجل وخاصة فى السنوات الخمس الأخيرة التى أعقبت ثورة يناير. قابلت الأستاذ هيكل أول مرة فى إحدى ندوات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى منتصف الثمانينيات عقب تخرجى مباشرة من الكلية، وكنا فى ذلك الوقت سعيدين بالتحول الذى أحدثه أستاذنا الدكتور على الدين هلال فى مسار الكلية بتأسيسه مركز البحوث السياسية الذى أعطى لنا فرصة لنقاش كثير من الأساتذة خارج إطار المحاضرة وبعيدا عن الخوف من أن «نزعل» الأستاذ بسؤال سياسى خارج المحاضرة…. فنسقط فى الامتحان. وكان هيكل حاضرا أكثر من مرة هذه الندوات، وكرمته كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مرة فى احتفال كبير، وتعلمت من كتبه أن أحب علم السياسة وأن أربط خشونة البحث العلمى بنعومة الصحافة، وحفظت تقريبا كثيرا من كتبه مثل: لمصر لا لعبدالناصر، قصة السويس آخر حروب العمالقة، حكاية العرب والسوفيت، حديث المبادرة، السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة، حرب الثلاثين عاما، بين الصحافة والسياسة، زيارة جديدة للتاريخ، مدافع آية الله، خريف الغضب، وغيرها. وظلت صلتى بالأستاذ عبارة عن حوارات طويلة نسبيا فى المرات التى زارنا فيها فى الكلية وكنت سعيدا أنه فى المرة التالية يذكر اسمى ويشيد بما قلت ويشجعنى على السفر خارج مصر واستكمال الدراسة. وسافرت فعلا فى نهاية الثمانينيات إلى فرنسا للدراسة وانقطعت الصلة إلا متابعة ما يقول الأستاذ وما يكتب وأذكر أنى عدت فى أكثر من أجازة طوال عقد التسعينيات، وتواصلت مع الأستاذ وألتقيته ثلاث مرات على فترات متباعدة فى برقاش على غذاء أنيق فى شرفه المنزل أمام حديقة بيته الريفى الشهير، أحداها كانت بصبحه عبد الله السناوى (وكان معنا شخص ثالث لم نتذكره نحن الاثنين) ولقاءين آخرين كنت بمفردى وأذكر أنى أجريت حوارات طويلة معه وكانت فكرة تأسيس مركز أبحاث وصحيفة عميقة حاضرة فى جانب كبير من نقاشنا. وفى أحد هذه اللقاءات اصطحبنى بعربه الجلف فى حديقة المنزل وأشار إلى أحد الأشجار الشهيرة وقال لى إن عبدالناصر كان يحب أن يجلس تحتها وأن هناك اجتماعات كثيرة جرت تحت ظلالها. منزل برقاش ومكتبة الأستاذ العريقة البريطانية الشكل والطابع ضمت 25 ألف كتاب وكان بها وثائق نادرة ولا أعرف بالضبط ماذا تبقى منها بعد أن قام أنصار الإخوان بحرقها عقب 30 يونيو بل إن النسخة الأصلية من كتاب وصف مصر الشهير والموقع من نابليون نفسه وجد ملقى فى أحد مصارف القرية، ودليل على همجية وجهل من قاموا بهذا العمل المشين. وظلت لقاءاتى مع الأستاذ يفصلها سنوات طوال مدة دراستى فى فرنسا حتى عدت فى عام 2000 وبدأت أتواصل معه على فترات يفصلها أشهر وتخللها لقاء آخر فى برقاش ولقاءات فى مكتبه الشهير على كورنيش النيل. وأذكر أنه قبل صدور جريدة الشروق وكنت واحدا من أعضاء مجلسها التحريرى الذى أسس الجريدة، وذهبت فى 2008 إلى مؤتمر فى جامعة وست منيستر البريطانية وكان الأستاذ فى لندن ينزل فى فندقه الشهير كلاريدج (Claridge Hotel) فى قلب لندن والتقيته مرتين مرة بصحبة إبراهيم المعلم وعمرو حمزواى للحديث عن الصحيفة الجديدة، والثانى كان لقاء منفردا على إفطار أعتقد أنى نجحت فى تحريكه من الثامنة صباحا إلى الثامنة والنصف، ومازالت أحتفظ فى مكتبتى بالصورة الوحيدة التى أصررت على أخذها مع الأستاذ داخل جنبات الفندق البريطانى العريق. وقامت ثورة يناير ومنذ ذلك التاريخ يمكن أن أقول إن علاقتى بالأستاذ قد تعمقت على المستوى الإنسانى أكثر، وقد أفصل فى كتابات قادمة عن رؤى للرجل وتقديراته لجوانب متعددة مما نعيشه الآن. وعلى أن أقول إن الأستاذ رغم تركيبته المحافظة وكبر سنه ومقامه إلا أنه فى كثير من نقاشنا كان مؤيدا لثورة يناير ربما أكثر منى وكنت أقول له: «يا أستاذ حضرتك إزاى تبقى ثورى بالشكل ده حتى هذا ضد ثقافتك الإصلاحية والمحافظة» كان يشعر أن يناير أعادت للبلد الحياة وأعطت أملا كبيرا فى التغيير والتقدم وكان حزينا لما وصل إليه حال البلاد والعباد وقال لى أكثر من مرة اكتب كتابا أو بحثا عن كيف تحولت طموحات شعب فى الحرية والكرامة والتقدم إلى مجرد السعى من أجل البقاء. رفض هيكل حكم الإخوان وتجربتهم بالكامل، وجاءت ثورة 30 يونيو وراهن الرجل على مسارها، وأذكر أنى جلست أمامه مع الصديق د. زياد بهاء الدين عشية تشكيل حكومة د. حازم الببلاوى وكان يدفعنى لقبول الوزارة التى لم أقبلها فى النهاية رغم ضغوطات الكثيرين وأذكر أنه فى هذا اللقاء المسائى «الساهر» (أمر نادر الحدوث أن يعطى الأستاذ موعدا بعد 8 مساء وكانت الظروف الدقيقة التى تمر بها البلاد السبب وراء قيامه بذلك) تكلمنا فى اللحظة الصعبة وضرورة دعم مسار 30 يونيو، وسألنى عن رأيى فى د.مصطفى حجازى الذى اتصل به قبل وصولنا بقليل، وقلت له كلاما شديد الإيجابية يستحقه الرجل. ومر العام الانتقالى وأصبح مرشح الضرورة رئيسا للبلاد، ولم يعجبه فى البداية ابتعادى الم بكر عن الهيئة الاستشارية لحملة المشير السيسى وقبل بدء الانتخابات، وكلمنى كثيرا عن المثقفين الذين يتعاملون «بالشوكة والسكينة» مع الواقع ويريدون تفصيله على مقاسهم، وكنت أرد عليه مازحا «يا أستاذ انت ناسى أنى نائب سابق عن إمبابة وتعاملت مع الجماهير». كان هيكل متفائلا بالحكم الجديد وكان لديه أمل ورغبة فى أن يصلح ما خرب على مدار 40 عاما، ولكنه سرعان ما فتر التأييد حتى أصبحت نظرته فى آخر لقاءاتنا أقرب إلى نقد الأوضاع والتشاؤم من المستقبل. أذكر أنى قلت له مرة ما فائدة أن تقول كل هذا الكلام النقدى والإصلاحى، وهم يقومون بعكس ما تقوله فرد على مبتسما، ليس العكس، وهل تعتقد أنه إذا لم يكن هناك من يقول وجهة نظر مخالفة هل كنت ستكتب «سيادتك» أنت وغيرك هذا الكلام النقدى، وكان المقصود من تعليقه هذا (وكما قال لى صراحة) أن هناك أطرافا كثيرة محيطة بالحكم تقول للرئاسة اعتقل الجميع وكفى تدليلا للمثقفين والنشطاء والسياسيين وأن البلد فى حالة حرب على الإرهاب ويجب الضرب بيد من حديد على كل من ينتقد الآن فى مصر. لم يكن الأستاذ متفائلا بالأداء الحالى وكان مصدوما من حال الإعلام، وقال هذا الكلام ربما للرئيس، بأنه لا يمكن أن تدار البلد بهذه الطريقة وتوقع أزمة اقتصادية وسياسية كبيرة. رحلة الأستاذ فى عالم الصحافة والسياسية حافلة بمحطات كبرى أهم ما فيها بالنسبة لى ولكثيرين أننا كنا أمام شخص سيذكر له التاريخ أنه بنى اسمه الكبير من خلال موهبته وعمله ومهنيته، فى وقت تراجعت فيه هذه القيم خاصة فى بلد مثل مصر، كما أنه مثل بالنسبة لى (ولكثيرين أيضا) «السلطة المعنوية» الحرة أو المرجعية التى تختار أن تعود إليها بمحض إرادتك فهو ليس رئيسك فى العمل ولا مديرك وربما كثير مما تقوم به لا يتقاطع معه وهو رجل لا يحب أن ينافقه أحد وهو شخصية تتسم بثراء إنسانى نادر وثقة كبيرة فى النفس انعكست على علاقته بكل من اقترب منه فهو ليس رجل الصراعات الرخيصة وإذا دخل فى صراع يكون على مواقف وحسابات كبرى وفى العلن ويحكمه سلوك الفرسان الكبار. سأفتقد ما تبقى من عمرى من اخترت بمحض إرادتى أن يكون «المرجع المعنوي» والذى اعتدت أن أعود إليه فى معظم النقاشات التى تتعلق بالهموم والطموحات والإخفاقات الكبرى. رحم الله الأستاذ هيكل قيمة كبيرة وعلامة مضيئة فى تاريخنا العربى والإنسانى المعاصر. اللينك المختصرللمقال: https://amwalalghad.com/yuc6